أولغا تحولت الى دمية
طفلة شقراء جميلة في العاشرة من عمرها , خرجت صباح ذات يوم ممطر من عام 2002 لزيارة جدتها التي تعيش في نفس الشارع , كانت تلك هي المرة الأولى التي تخرج فيها لوحدها من منزلها بعد أن جادلت أمها طويلا بأنها أصبحت كبيرة وتريد الذهاب لمنزل جدتها لوحدها , فوافقت الأم على مضض . ارتدت أولغا فستانا أبيضا ناصعا وتأبطت حقيبتها الخضراء المفضلة التي تحتفظ فيها ببضعة روبلات لشراء الحلوى ولم تنس طبعا أن تأخذ معها مظلتها الزرقاء الصغيرة المطرزة بالورود ثم طبعت قبلة حارة على خد أمها وخرجت .. خرجت أولغا من منزل أهلها .. ومرت خمسة شهور ولم تعد ! .. فتش أبواها عنها كل مكان وحققت الشرطة مع الأقارب والجيران .. لكنهم لا أثر للفتاة .. وعلى عكس توقعات الجميع , لم تكن أولغا قد مضت بعيدا عن منزلها , كانت ترقد فوق سطح العمارة المجاورة , ممددة خلف خزان مياه كبير , خصلاتها الذهبية مبعثرة , بشرتها الرقيقة متغضنة , وثيابها الزاهية متهرئة .. وعلى تلك الحالة المأساوية عثر عليها أحد عمال الصيانة . لكن ما الذي جرى لأولغا ؟ .. وكيف انتهت جثة هامدة فوق سطح العمارة ؟ .. تحقيقات الشرطة سرعان ما توصلت إلى أن أولغا قتلت على يد شاب مدمن للمخدرات , ذئب بشري أصطادها حالما غادرت منزلها , وضع يده على فمها وسحبها عنوة إلى سطح العمارة طمعا في تلك الروبلات القليلة التي تحتفظ بها في حقيبتها الصغيرة , وحينما صرخت الفتاة وأرادت الهرب عالجها بضربة من قضيب حديدي على أم رأسها فسكتت في الحال .. وإلى الأبد
…………………..
كم كان حزن والدي أولغا عظيما , فهي أبنتهم الوحيدة , نور عينيهما , مهجة فؤادهما .. وها هي اليوم تقبع في تابوت بارد صلد بانتظار أن ينزلوها إلى حفرة صغيرة في مقبرة موحشة بضواحي مدينة نيجني نوفغورود الروسية . بالنسبة للأم ناتاليا فأن العيش في شقتها أصبح كالجحيم , كل ركن من أركان الشقة الصغيرة يذكرها بأولغا , لقد تعبت من البكاء والحسرة , أرادت أن تبدأ حياة جديدة , طلبت من زوجها أن ينتقلا لشقة أخرى , لكن الزوج رفض , فكل يوم حين يعود من العمل , أول شيء يفعله بعد أن يغير ملابسه هو الدخول إلى حجرة طفلته الحبيبة , يغلق الباب على نفسه ويظل هناك لساعات , يذرف الدموع بصمت , يشم ملابسها , يناجي مخدتها , يحدثها كأنها مازلت حية .. كم هو ممض وموجع فقدان الأهل لأطفالهم . ومرت عشرة أعوام , أنجب الزوجان خلالها طفلا جديدا , ولدا أسمياه الكسندر , خفف عنهما حزنهما وشجعهما على طوي صفحة الماضي فانتقلا لشقة جديدة , لكنهما لم ينقطعا عن زيارة قبر أولغا , كانا يجلبان الورود والشموع ويحتفلان بعيد ميلادها , يضعان الدمى على قبرها , يذرفان الدموع بحرقة على طفلتهما التي غيبيها التراب باكرا . الشيء الوحيد الذي لم يتخيله والدا أولغا طوال تلك السنوات هو أنهما كانا يبكيان فوق قبر فارغ , وأن ابنتهما أولغا كانت قد تركت قبرها منذ سنوات بعيدة ! .. لكن كيف لفتاة صغيرة ميتة أن تترك قبرها ؟ .. هي طبعا لم تغادر قبرها بنفسها , بل أخذت منه عنوة في ليلة باردة من ليالي شتاء عام 2003 , أي بعد أقل من سنة على دفنها , حيث تسلل أحدهم إلى ضريحها الصغير وقام بعمل ثقب كبير في تابوتها الخشبي أستل منه الجثة وطار بها إلى منزله .. لكن أي عاقل يمكن أن يفعل أمرا كهذا ؟ .. ومن قال أنه عاقل .. أسمه اناتولي ماسكفين , هوايته المفضلة هي سرقة جثث الفتيات الصغيرات من قبورهن وتحويلهن إلى دمى !
…
اناتولي أعزب في الأربعينيات من عمره يعيش مع والديه , لا يشرب ولا يدخن , ولم يعاشر امرأة في حياته قط , معدل ذكاءه عالي جدا .. يوصف بالعبقري , يتحدث 13 لغة , خريج كلية اللغات جامعة موسكو , كاتب وصحفي , يعتبر حجة في تاريخ المقابر , متخصص في فلكلور السلتيين , وهم من الشعوب الأوربية القديمة , وذو مكانة في الأوساط الأكاديمية الروسية . عجيب حقا ! .. هذا العبقري الجهبذ .. فلتة زمانه وفريد عصره وأوانه .. لماذا يسرق جثث الفتيات ؟ .. لأنه يعاني مشاكل في عقله , فقديما قالوا أن الشيء حينما يزداد عن حده ينقلب إلى ضده .. والعبقرية حينما تزيد عن حدها تنقلب إلى جنون ! .. وهذا ينطبق انطباقا كاملا على حالة اناتولي. فالرجل كان مهووسا بكل ما يتعلق بالقبور , أمضى 30 عاما وهو يدور على قدميه بين المقابر الروسية ليوثق تاريخها , وقد كتب أكبر موسوعة روسية عن المقابر وهوية ساكنيها مع نبذة عن حياتهم الفانية . ومعلوم أن التواجد الدائم في المقابر يجعل القلب يقسو ولا يهاب الموتى والجثث , لا بل قد يصبح عاشقا لهذه الأمور , وهذا ما حدث بالضبط مع اناتولي , إذ أصبح يعشق كل ما يتصل بالموتى , وصار يمضي لياليه نائما في المقابر المظلمة المهجورة التي يتهيب الناس مجرد المرور بالقرب منها
وبحسب اناتولي فأن بذرة هذا الولع الغريب بالموت والموتى تكون لديه حينما كان في الحادية عشر من عمره , حين ذهب مع والديه إلى جنازة فتاة صغيرة , وهناك دفعه قس الكنيسة إلى تقبيل خد الفتاة الميتة في التابوت . تلك القبلة الباردة زرعت عشقا غريبا ومجنونا في نفسه فصار يهرب من المدرسة ليلعب ويلهو داخل المقابر القريبة . ومن خلال دراسته للسلتيين وغيرهم من الأمم الوثنية القديمة , عرف اناتولي بأن الكهنة القدماء كان لديهم طرق خاصة للتواصل مع الموتى , من بينها النوم داخل القبور لإيجاد رابط مع روح الميت والتواصل معها . فحاول اناتولي تطبيق نفس الفكرة , راح ينام داخل القبور يناجي توابيتها , وصار مقتنعا بالتدريج بأنه قادر فعلا على التواصل مع الموتى . طيب لماذا كان يسرق جثث الفتيات الصغيرات على وجه الخصوص ؟ .. في الواقع هو لم يفعل ذلك لغرض سيء , هو كان يعشق الفتيات الصغيرات ولديه حس أبوة تجاههن , تمنى لسنوات طويلة أن تكون له ابنة , لكنه لم يكن راغبا بالزواج , كان يكره الجنس ويتقزز منه , وقد تقدم مرة بطلب للحكومة من أجل أن يوافقوا على تبنيه لفتاة لكنهم رفضوا طلبه لأنه أعزب وحالته المادية ضعيفة . فكان يجد متنفسا لمشاعره عن طريق النوم داخل قبور الفتيات الصغيرات والتحدث إليهن .. وخلال تلك الأحاديث كانت الفتيات الميتات يتوسلن إليه لكي يأخذهن معه إلى منزله , كن ينشجن بالبكاء ويشكوَن وحدتهن وخوفهن وكيف أن أهلهن تخلوا عنهن في هذا المكان البارد المظلم .
اولغا تحولت إلى هذه الدمية .. طبعا قد تقول عزيزي القارئ بأن الفتيات الميتات يستحيل أن يتحدثن ويقلن مثل هذا الكلام , وأنا طبعا أتفق معك , لكننا هنا نتحدث عن شخص معتوه .. شخص يصور له عقله الباطن أمورا لا وجود لها , فتراه يؤمن بأن الجثث تتكلم , ويعتقد بأن القبر مكان موحش ليس من الأنصاف أن تترك فتاة صغيرة فيه . وكان من عادته أن يترك رسائل على شاهد القبر لوالدي الفتاة يؤنبهم فيها على نسيانهم لأبنتهم وعدم رعايتهم لها , حدث هذا مع والدي اولغا , فقد وجدا بعضا من هذه الرسائل على قبرها , وفي إحدى تلك الرسائل لامهما وقرعهما على عدم شراء شاهد قبر جديد يليق بأولغا , فقاما بالفعل بشراء شاهد جديد , لكنه على ما يبدو لم يعجبه الشاهد فقام بتحطيمه بالفأس .. الوالدان المكلومان ذهبا للشرطة وقدما شكوى ضد هذا الشخص المجنون , لكن الشرطة لم تبالي , أخبرتهم بأن عليهم أن يمسكوه بأنفسهم . وبعد فترة اختفت الرسائل المزعجة , فظن والدا أولغا بأنهما ارتاحا أخيرا , لكن لم يدر بخلدهما بأن ذلك المجنون سرق جثة أبنتهما من تابوتها وأخذها معه إلى منزله ليعتني بها بنفسه ! . كان اناتولي يستغل فرصة سفر والديه معظم أيام السنة إلى منزلهما الريفي ليمارس هوايته المفضلة في سرقة الجثث , كان يختار الفتيات بين عمر 15 – 3 سنة . طبعا لم يكن باستطاعته الاحتفاظ بالجثث في منزله على هيئتها البشعة المتفسخة , لذا كان يحولها إلى دمى .. طريقته كانت بسيطة أقتبسها من طريقة تجفيف المصريين القدماء للجثث وتحويلها إلى مومياء , في البداية يضع الجثة في الملح من اجل امتصاص السوائل منها ثم ينقعها بالصودا , وبعد ذلك يتركها في أماكن جافة مهجورة يعرفها جيدا داخل المقابر حتى تتحول إلى مومياء , وأخيرا يلبسها ثيابا وأحذية ويضع قناعا على وجهها فتبدو كأنها دمية بالحجم الطبيعي
………….
والداه قالا بأنهما لم يشكا يوما في أن تلك الدمى كانت جثثا بشرية , لقد ظنا بأن أبنهما يحب صنع الدمى وجمعها فلم يريا بأسا في ذلك . ولم يكن اناتولي يعامل دماه على أنهن فتيات ميتات , بل كان يرعاهن وكأنهن على قيد الحياة , يتحدث إليهن ويجلس معهن لمشاهدة الرسوم المتحركة , ويحتفل بأعياد ميلادهن (الذي عرفه عن طريق شاهد قبرهن) , وكذلك بانتقالهن من صف إلى آخر في المدرسة , ورغم ضعف حالته المادية لم يتوانى عن شراء الهدايا لهن . كانت يعامل الفتيات وكأنهن بناته اللواتي لم يحظى بهن أبدا في عالم الواقع .
قصة اناتولي مع الجثث والدمى وصلت محطتها الأخيرة ذات يوم من عام 2011 حينما قبضت عليه الشرطة متلبسا بنبش أحد القبور , وبتفتيش منزله تم العثور على 29 دمية في حجرة نومه التي تغص أيضا بأكوام من الكتب . ولحسن الحظ لم تجد الشرطة صعوبة في التعرف على هوياتهن , لأن أناتولي كان قد وضع سجلا فيه معلومات وافية عنهن , كأسمائهن وتاريخ ميلادهن . تحقيقات الشرطة استمرت لعدة أشهر , خلالها اتصلوا بذوي الفتيات للحصول على أذن بنبش قبور بناتهم للتأكد من أن جثثهن قد سرقت فعلا من قبل اناتولي . ولقد طرقت الشرطة باب منزل والدي أولغا بداية عام 2012 , أخبراهما بأنهم سينبشون قبر أبنتهما , فذهب الوالدان مع الشرطة وراقبا العملية , وأصيبا بصدمة كبيرة عندما وجدا أن التابوت فارغ . ٠
الأم نتاليا قالت وهي تمسح دموعها : " لقد تعرضت أبنتي للقتل وكان من المفروض أن ترقد بسلام في قبرها , لكن عوضا عن ذلك تمت سرقة جسدها وتحولت إلى مومياء في حجرة نوم شخص مريض لمدة تسع سنوات .. كم هي مسكينة طفلتي .. كانت لتكون الآن شابة جميلة في العشرينيات من عمرها .. كانت ستعيش حياة كاملة لولا الشر الذي طاردها .. صورتها معلقة على جدار مطبخي .. كل يوم أتحدث أليها .. بالنسبة لي ستبقى أولغا دوما طفلتي المدللة الجميلة " .. تم عرض اناتولي على القاضي , والمفارقة أنه بدل أن يبدي ندما على فعلته صرخ في ذوي الفتيات حالما دخل قاعة المحكمة قائلا بحنق : " لقد تخليتم عن بناتكم وتركتموهن في البرد .. أنا جلبتهن لمنزلي ودفئدتهن واعتنيت بهم " . وفي لقاء صحفي معه قال اناتولي بأن سبب تحويله الفتيات إلى دمى هو اعتقاده بأن العلم سيتمكن يوما ما من إعادتهن إلى قيد الحياة . الأطباء فحصوا اناتولي واعتبروه مجنونا وغير صالحا للمثول أمام المحكمة , لذا أصدر القاضي قرارا بتحويله إلى مستشفى الأمراض العقلية وهو يقبع هناك حتى يومنا هذا رغم مطالبات ذوي الفتيات بمحاكمته وسجنه . أما الدمى فقد سلمت لذوي الفتيات من اجل دفنها مجددا , وبالنسبة للطفلة المسكينة أولغا فقد قام والديها بدفنها في بقعة مجهولة أملا في أن ترقد بسلام أخيرا