و تحدثت  عيناك

و تحدثت عيناك

1 المراجعات

وتحدثت عيناك

في صباح خريفي رمادي، جلست ندى على الطاولة القريبة من النافذة في المقهى الصغير الذي اعتادت زيارته منذ أشهر. نفس الطاولة، نفس الكرسي، ونفس كوب القهوة الذي لا تنهيه أبدًا. لم تكن تحب التغيير، ليس لأنها تحب الثبات، بل لأنها خافت من المفاجآت منذ أن غدرها كل من أحبتهم. منذ عامين، كانت تستعد لحياة جديدة، زفاف، شقة صغيرة، ووعود كثيرة... لكن في لحظة، تهدّم كل شيء. خطيبها تركها دون مبرر واضح، وقال فقط: "مش قادر أكمل."

منذ ذلك اليوم، أصبحت ندى شخصًا آخر. تكتب في مجلة إلكترونية، تخرج قليلًا، تضحك قليلًا، وتعيش كثيرًا داخل رأسها.

لكن ذلك اليوم لم يكن كأي يوم.

وهي تكتب، شعرت بأن هناك من يراقبها. رفعت عينيها لتقابل نظرات رجل يجلس على الطاولة المقابلة. لم يكن غريبًا، ولا مألوفًا تمامًا، لكنه لفت انتباهها بطريقة لم تفهمها.

كان يقرأ كتابًا قديم الطباعة، ملامحه هادئة، عيناه تتكلمان بلغة لا تُدرّس في الكتب.

نظرت له لحظة، ثم عادت لكتابة مقالها.

لكن صوته قطع أفكارها:

– بتحبي القهوة سادة كده من غير سكر؟

رفعت رأسها بدهشة، ثم ابتسمت دون أن تدري، وقالت: – بتساعدني أكتب.

أغلق كتابه ووضعه جانبًا، وقال: – وأنا القهوة بتساعدني أنسى.

– تنسى إيه؟

– حاجات كتير... وناس أكتر.

صمتت، ثم قالت: – أنا ندى.

– وأنا سليم.

ابتسم كلاهما، كأن اللقاء لم يكن صدفة.

لم تسأله عن عمله، ولم يسألها عن ماضيها. لكن الأيام التالية جعلت المقهى مكانًا مشتركًا، ومساحة للهرب من حياة لا تحتمل المزيد من الأسئلة.

كل صباح، كانت تجده هناك. أحيانًا يقرأ، أحيانًا يكتب، وأحيانًا ينظر من النافذة بصمت مؤلم.
وذات مرة، كانت تمر بيوم سيء. وصلتها رسالة من زميل سابق يذكرها بما فقدت، فدخلت المقهى بعينين دامعتين.

رآها سليم، لم يقل شيئًا، فقط أخرج من جيبه منديلاً ورقيًا، ومدّه لها بهدوء.

جلست، ووضعت رأسها بين كفيها.

قال بصوت منخفض: – عادي لو سكتنا شوية؟
– آه… محتاجة سكون.

جلسا صامتين. القهوة تبرد، والهواء البارد يداعب الستائر، وأعينهما تتحدث.

ثم همس: – إنتِ مش لوحدك.

رفعت عينيها وقالت: – أنا مش خايفة من الوحدة... أنا خايفة من التعلق.

– ليه؟

– لأن اللي بيتعلق... بيتكسر لما اللي اتعلق بيه يبعد.

أومأ برأسه، وقال: – وأنا بعدت كتير… وهربت أكتر.

تنهدت وقالت: – بتحب الكتابة؟

– أكتب علشان أفتكر اللي نسيت أقوله… وأعيش اللي كان نفسي أعيشه.

سألته بفضول: – بتحكي عن نفسك في اللي بتكتبه؟

– أوقات... بس بحاول ألبس الوجع وشوش تانية.

ثم صمت لحظة، وأضاف: – بس يمكن جيه الوقت أتكلم عني… وعن اللي ضاع.

ونظر لها طويلًا، ثم قال: – أنا كنت خاطب… من أربع سنين. كنا بنحب بعض من أيام الجامعة. بس في يوم، اتعرضت لحادث، فقدت فيه قدرتي على الإنجاب. والدكاترة قالولي إن الموضوع صعب يتصلح. قلت لها، وأنا متأكد إنها هتفضل جنبي… لكنها سابتني.

أغمضت ندى عينيها، شعرت بأن هذا الألم يشبه ألمها.

قالت بصوت متهدج: – وأنا كمان كنت مخطوبة… وسابني من غير سبب، قال لي “مش قادر أكمل”.

قال سليم: – أوقات بيكون في سبب… بس إحنا اللي بنخاف نقوله.

سألته: – وإنت؟ ندمت؟

– ندمت إني وثقت إن الحب كفاية… بس دلوقتي يمكن بحاول أصدق إن الحياة بتدي فرص تانية.

نظرت إليه، وقالت: – وساعات العيون بتتكلم أكتر من الكلمات.

هزّ رأسه ببطء، وقال: – وعينك بتحكي كتير يا ندى… أكتر من كل اللي قولتيه.

في تلك اللحظة، حدث شيء لم يُقال، لم يُكتب، لكنه سُمع. ربما كان ذلك الصوت الداخلي الذي يخبر الإنسان أن هناك روحًا تشبهه. أن هناك من يمكنه أن يفهمك حتى دون أن تشرح.

مرت الأسابيع، وأصبحا أكثر من مجرد شخصين يجلسان على طاولة.
لم تكن بينهما علاقة واضحة، لا حب مُعلن، ولا وعود... لكن هناك لحظات دافئة، ونظرات طويلة، وسكون لا يشبه الصمت.

وذات مساء، وهما يغادران المقهى، وقف سليم فجأة، وقال:

– ندى… أنا يمكن مش كامل، ويمكن في حاجات كتير ضايعة مني… بس أنا موجود.

سكت لحظة، وأكمل:

– موجود لو احتجتي تبكي، أو تحكي، أو حتى تسكتي.

نظرت إليه طويلاً، ثم اقتربت منه، وضعت يدها على يده، وقالت:

– وأنا كمان… موجودة، ومش خايفة أبتدي من جديد.

ابتسم كلاهما.

وفي الشارع الممتد أمامهما، لم تكن هناك نهايات، فقط بداية جديدة تُكتب بلغة العيون…
وبين كوب قهوة، وصفحات قديمة، وقلوب جرحتها الحياة…
تحدثت العيون، وتحدثت الأرواح،
وتحدثت عيناك.
 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

6

متابعهم

3

متابعهم

1

مقالات مشابة