بين لهب القمر وظلال العشق 💑

بين لهب القمر وظلال العشق 💑

0 المراجعات

 

كانت ليان دائمًا تقول إن المكتبات لا تحفظ الكتب فقط، بل تحفظ الأرواح التي مرت بين صفحاتها. في قلب المدينة القديمة، بين البيوت الحجرية والشوارع الضيقة التي تفوح منها رائحة الياسمين والخبز الطازج، وقفت مكتبتها الصغيرة كجوهرة منسية. لم يكن أحد يجرؤ على المرور قربها ليلًا؛ فالقصص القديمة تقول إن أرواحًا عالقة تهمس بين رفوفها في منتصف الليل. لكن ليان، الفتاة الرقيقة ذات القلب الكبير، لم تكن تخاف شيئًا. ربما لأنها تحمل جرحًا قديمًا جعل الخوف يبدو شيئًا تافهًا.

قبل سنوات، تركها من أحبته دون وداع، تاركًا وراءه وعدًا بالعودة لم يتحقق. ومنذ ذلك الحين، أقسمت ألا تثق بوعود أحد. لكنها لم تتوقف عن الانتظار في أعماق قلبها، رغم محاولاتها إقناع نفسها بالعكس.

في ليلة باردة، والقمر مكتمل يتلألأ كجمر في السماء، كانت ليان تغلق المكتبة عند منتصف الليل. فجأة، رأت ظلًا طويلًا يقف أمام الباب. كان رجلًا غريب الملامح، طويل القامة، عيونه سوداء عميقة تشع بريقًا خافتًا كأنها تعرف أسرار الليل. ابتسم ابتسامة هادئة وقال بصوت رخيم:
– "أبحث عن كتاب لا يجرؤ أحد على بيعه… سمعت أنك الوحيدة القادرة على إيجاده."

ترددت ليان، لكن شيئًا في صوته جعل قلبها يخفق بسرعة غير مألوفة. سألته:
– "ومن تكون حتى أساعدك؟"
اقترب بخطوات ثابتة حتى كادت أنفاسه تلامس وجهها، وقال:
– "اسمي عادل… وربما جئت أبحث عنك قبل الكتاب."

ارتبكت ليان، حاولت أن تخفي توترها خلف صرامة مفتعلة، لكنها وافقت على مساعدته. لم تكن تعلم أن قبولها هذا الطلب سيفتح أبوابًا لماضٍ لم تعشه، ومستقبل لم تتخيله.

خلال الأيام التالية، أخذها عادل في رحلات عبر أزقة المدينة القديمة، إلى أماكن لم تطأها قدمها من قبل. مقابر مهجورة، بيوت نصف مهدمة، جدران مغطاة بنقوش غريبة. في كل مكان، كان يبحث عن إشارات تقوده إلى الكتاب الذي يريد. ومع كل لحظة قضتها بقربه، شعرت ليان أن قلبها يستعيد دقاته الأولى، كأنها تعرف هذا الرجل منذ زمن بعيد جدًا، قبل أن تولد حتى.

بدأت الغرائب تلاحقها: رسائل مجهولة تصل إلى المكتبة تحمل تحذيرات "ابتعدي عنه… ليس كما تظنين." أبواب تُفتح وحدها في الليل، أحلام غامضة عن فتاة ترتدي ثوبًا أبيض تبكي على شاطئ بحر مظلم. وكلما ازداد اقترابها من عادل، ازدادت تلك الظواهر غموضًا وكثافة.

وفي ليلة مطيرة، جلسا معًا في ركن مظلم من المكتبة، وأخبرها بالحقيقة:
– "أنا لست من زمنك يا ليان… جئت من ماضٍ بعيد، قبل قرن من الآن. كنت أبحث عن عهد لم يكتمل، وعن حب ضاع مني رغم أني لم أخنه. الكتاب الذي نبحث عنه سيعيدني إلى زمن الحقيقة، وسيكشف من خان الحب الأول."

ارتجفت ليان، لكنها صدقته دون تردد، لأن قلبها كان يعرف أنه لا يكذب. ومع مرور الأيام، أدركت أن ملامحه تشبه ملامح الرجل الذي يظهر في أحلامها منذ طفولتها، نفس الابتسامة ونفس النظرة الدافئة.

واصلت البحث معه بلا توقف، حتى وجدوا أخيرًا سردابًا مخفيًا تحت المكتبة، كُتب على بابه بدماء قديمة: "الحب لا يموت… بل ينتظر." عندما فتحوا الباب، وجدوا الكتاب المفقود، مغطى بغبار السنين. ما إن لامست ليان صفحاته حتى انبعث منه ضوء أزرق قوي أغرق المكان.

ظهرت الحقيقة جلية: روح ليان هي ذاتها روح الحبيبة التي خسرها عادل قبل مئة عام. لم يكن قدرهما أن يفترقا بسبب الخيانة، بل بسبب خيانة الزمن نفسه. كان حبّهما عالقًا بين قرنين، يبحث عن فرصة ثانية.

اقترب عادل منها والدموع في عينيه وهمس:
– "هذه المرة لن أتركك."

احتضنها بقوة بينما اندمج ضوء الكتاب مع وهج القمر، فتوقّف الزمن للحظة، ثم تبدّل كل شيء. تلاشت اللعنة القديمة، وأصبحا معًا في هذا العالم، بلا فراق ولا خوف.

بعد تلك الليلة، لم تعد المكتبة مكانًا عاديًا. أصبحت ملاذًا للعشاق، ويقال إنه في الليالي التي يكتمل فيها القمر، يمكن رؤية ظلّ ليان وعادل يتجولان بين رفوف الكتب، يضحكان بهدوء كما لو كانا يعيشان قصة حب لا تنتهي.
 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

9

متابعهم

5

متابعهم

1

مقالات مشابة