
على أرصفة المطر
على أرصفة المطر

كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمدينة مبللة بقطرات المطر التي ترسم موسيقاها الخاصة على الأرصفة. "نور" فتاة في بداية العشرينات، تحب المشي تحت المطر لأنها تشعر أن العالم يغتسل من أحزانه. كانت تحمل كتاباً بين يديها وتحتمي بمظلة صغيرة، لكن قطرات المطر كانت تتسلل إليها رغم ذلك.
في الجهة الأخرى من الطريق، كان "عادل" يقف عند مقهى صغير، يراقب الناس وهم يركضون من المطر. عادل شاب هادئ، يميل إلى العزلة، يكتب خواطره على دفتر أسود يحتفظ به منذ سنوات. وبينما كان ينظر بملل إلى الشارع، لفتت انتباهه تلك الفتاة التي تمشي ببطء، وكأنها وحدها تملك وقتاً كافياً للاستمتاع بهذا الجو.
تعثرت "نور" فجأة بحجر صغير، فانزلق كتابها من يدها ليسقط وسط الطريق المبتل. هرعت لتحمله، لكن "عادل" سبقها، انحنى والتقطه قبل أن تصل إليه قطرات الطين. رفع رأسه مبتسماً ومدّ يده إليها قائلاً:
– "أظن أن هذا الكتاب أغلى من أن تتركيه يضيع."
ابتسمت بخجل وأخذت الكتاب:
– "شكراً… لم أكن منتبهة."
منذ تلك اللحظة، كان المطر شاهداً على بداية لم يتوقعها أحدهما. جلسا معاً في المقهى القريب ليحتميا من البرد. طلب هو قهوة سوداء، بينما طلبت هي كوب شوكولا ساخنة. تبادلا كلمات قليلة في البداية، لكنها كانت كافية لفتح باب طويل من الأحاديث.
سألها وهو يلمح عنوان الكتاب:
– "أتحبين الشعر؟"
– "أعشقه… أجد فيه ما لا أستطيع قوله."
ابتسم وقال:
– "وأنا أكتبه حين تضيق بي الكلمات."
من هنا بدأت قصتهما. صار المقهى ملتقاهما اليومي. يتحدثان عن الكتب، الأحلام، والمخاوف. كان "عادل" يرى في "نور" الضوء الذي يفتقده في عالمه الرمادي، وكانت هي ترى فيه الهدوء الذي لم تعرفه من قبل.
مرّت الأيام، وكل لقاء كان يزيد من خيوط القرب بينهما. وفي إحدى الأمسيات، جلسا في نفس المقهى بينما المطر يتساقط بغزارة. نظر إليها "عادل" طويلاً ثم قال بصوت خافت:
– "نور… كلما التقيتك شعرت أنني أكتب أجمل قصائدي دون قلم. لا أدري كيف يحدث ذلك، لكنك أصبحت أبياتي التي أعيش بها."
تسارعت دقات قلبها، وضحكت بخجل وهي تردّ:
– "وأنا… لم أعد أحتاج للمطر كي أغسل حزني، لأن وجودك يكفيني."
ساد صمت جميل، لم يكن بحاجة لكلمات أخرى. كان المقهى يعجّ بالناس، لكنهما شعرا أن العالم كله قد اختفى، وبقي فقط صوتهما وأنفاسهما المترددة.
مرت شهور، وكل شيء بينهما كبر: الحوارات، الضحكات، وحتى الخوف من الفقد. وفي يومٍ مشمس – على غير عادة قصتهما الممطرة – قرر "عادل" أن يصارحها بما في قلبه. اصطحبها إلى الشاطئ عند الغروب، حيث كان الأفق يلون البحر بدرجات برتقالية مذهلة. وقف أمامها، أمسك يدها برفق، وقال بصدق:
– "نور… منذ يوم المطر الأول، وأنا أعلم أن القدر أراد أن يجمعنا. لم يعد بوسعي أن أخفي الأمر أكثر. أحبك… وأريد أن أبقى معك مهما تغيرت الفصول."
ارتجفت كلماتها بين الدموع والابتسامة:
– "وأنا… كنت أخشى أن أعترف قبلك، لكنني أحبك أيضاً يا عادل. أنت قصيدتي الأجمل، ودفئي في كل برد."
عانقها بينما البحر يغني بأمواجه، وكأن الكون كله يحتفل بهما. كان الغروب يودع الشمس، لكنه أشرق في قلوبهما بدايةً جديدة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد المطر مجرد قطرات ماء، بل صار رمزاً لأول لقاء، وأجمل صدفة قلبت حياتهما إلى قصة حب كتبتها السماء.