على ضفة المساء

على ضفة المساء
لم يكن “آدم” يؤمن بأن الأشياء تعود كما كانت، ولم يكن يظن أن الأماكن تحتفظ برائحتنا بعد رحيلنا.
كان يقول دائمًا إن الزمن يأخذ كل شيء معه، وإن ما مضى لا يعود إلا في الأحلام.
لكن في تلك الليلة الباردة من ديسمبر، حين كان يعبر الجسر الحجري المطل على النهر، شعر بأن الماضي لم يمت كما اعتقد، بل كان ينتظره هناك بصبرٍ غريب.
كانت المدينة تتنفس بهدوءٍ بعد يومٍ طويل.
السماء ملبدة بالغيوم، والمطر الخفيف يرسم دوائر على سطح الماء كأنها رسائل من زمنٍ آخر.
أضواء الشوارع تتلألأ على الأرصفة المبتلة، والريح تحمل رائحة البنّ من مقهى صغير على الضفة المقابلة — المقهى نفسه الذي كان يجلس فيه مع “سارة” ذات زمن.
توقّف “آدم” للحظة. لم يكن ينوي الدخول، لكنه سمع موسيقى يعرفها جيدًا.
كانت الأغنية التي كانت “سارة” تعزفها في كل مساء قبل أن تغادر المدينة، لحنًا هادئًا يشبه وعدًا لم يكتمل.
شعر أن قلبه يخونه، يقوده نحو الباب دون إرادته.
فتح الباب بخفوت، ودخل المقهى.
رائحة القهوة امتزجت برائحة المطر، وضوءٌ أصفر دافئ يُغلف المكان كوشاحٍ قديم.
جلس في الزاوية نفسها التي جمعتهما يومًا، ونظر نحو المنصة الصغيرة.
كانت هي.
بنفس الشعر الطويل الذي ينسدل على كتفيها، بنفس ملامح الهدوء التي تخفي تحتها شيئًا من الحزن.
رفعت رأسها نحوه، توقّفت عن العزف، وكأن الهواء نفسه توقف عن الحركة.
بينهما مسافة قصيرة، لكنها بدت كأنها امتداد لسنواتٍ من الغياب.
ابتسمت بخفوتٍ وقالت:
ـ لم أتوقع أن أراك هنا، بعد كل هذا الوقت.
أجاب بصوتٍ خافت:
ـ ولا أنا توقعت أن أسمع نفس اللحن من جديد.
جلست أمامه، وبينهما فنجانان من القهوة لم يطلبهما أحد.
قالت وهي تنظر إلى المطر من النافذة:
ـ المدينة تغيّرت كثيرًا، كل شيء يبدو غريبًا.
ردّ مبتسمًا:
ـ ربما نحن الذين تغيّرنا، فصارت الأشياء تبدو مختلفة.
صمتا قليلًا.
كانت الموسيقى تعود ببطءٍ من خلفهما، والذكريات تُطل من كل زاوية في المكان.
قالت:
ـ كنت أظن أن الغياب يُنهي كل شيء، لكنه أحيانًا يجعلنا نفهم أكثر.
ابتسم وقال:
ـ نعم، بعض المسافات ضرورية لتقريب القلوب، مثلما يحتاج البحر إلى المدّ والجزر ليظل حيًّا.
تأمل وجهها طويلًا، ثم قال:
ـ كنت أعتقد أني نسيتك، لكن يبدو أن الذاكرة لا تنسى التفاصيل الصغيرة، تلك التي تترك أثرها فينا للأبد.
ردّت بنبرةٍ هادئة:
ـ ربما لم نُخلق لننسى، بل لنتعلّم كيف نحمل الذكريات دون أن تؤلمنا.
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، والمقهى بدأ يفرغ من زبائنه.
نظرت إليه نظرة طويلة تشبه الوداع، ثم قالت:
ـ سأغادر المدينة غدًا. هذه المرة… قد لا أعود.
ابتسم رغم الألم في صوته:
ـ وأنا… ربما سأظل هنا، أكتب عن الذين رحلوا.
وقفت ببطء، أمسكت غيتارها، وقالت قبل أن تمضي:
ـ لا تكتب عن الرحيل، اكتب عن اللقاء، فهو ما يستحق أن يُروى.
رحلت “سارة”، وبقي “آدم” وحده أمام فنجانٍ باردٍ لم يُكمل.
نظر إلى النهر من خلف الزجاج، ورأى الأضواء تنعكس على الماء كأنها ذكريات ترفض الغرق.
وحين خرج أخيرًا إلى الشارع المبتل، ابتسم وهو يتمتم لنفسه:
"الأشياء لا تعود كما كانت… لكنها أحيانًا تعود بطريقةٍ أجمل، حين نتغير نحن بما يكفي لنفهمها."