﴿ حُـبُّ الـلَّـيَـالـي ﴾
h1 ﴿ حُـبُّ الـلَّـيَـالـي ﴾
"حينما تُزهرُ الأرواحُ في سكونِ العتمة"
في زحام المدن الكبرى، حيث تبتلع الأضواء الصاخبة ملامح البشر، كان "يحيى" يعيش حياة رتيبة تحكمها عقارب الساعة. يعمل طبيباً مقيماً في أحد المستشفيات المزدحمة، يقضي نهاره بين ممرات الطوارئ البيضاء الباردة، ولا يجد سكينته إلا حين يعود إلى شقته في الطابق التاسع عند منتصف الليل. بالنسبة ليحيى، كان الليل هو المساحة الوحيدة التي يمتلك فيها هدوءه، بعيداً عن ضجيج الأجهزة الطبية وصراخ المتألمين الذين يملأون ردهات المشفى.
على الجانب الآخر من الشارع، في بناية عتيقة ذات طراز كلاسيكي، كانت تعيش "سارة". تعمل سارة مترجمة فورية مع شركات دولية، وبسبب اختلاف التوقيت العالمي، كان ليلها هو ذروة نشاطها الإبداعي. كانت شرفتها هي مكتبها المفضل؛ حيث تحيط نفسها بشتلات الياسمين وصوت موسيقى هادئة تندمج مع نقراتها السريعة والمتواصلة على لوحة المفاتيح.
لغة الشرفات الصامتة
بدأت الحكاية بما يمكن وصفه بـ "الرفقة الصامتة". في كل ليلة منهكة يعود فيها يحيى من نوبته، كان يجد ذلك الضوء الدافئ المنبعث من شقة سارة. ومع مرور الوقت، صار يحيى لا يخلد للنوم إلا بعد أن يراها جالسة هناك، وكأن وجودها في الجهة المقابلة هو الضمان الوحيد بأن العالم لا يزال بخير. لم يكن الأمر حباً سينمائياً من النظرة الأولى، بل كان شعوراً إنسانياً عميقاً بأن هناك غريباً في هذا العالم يشاركه قدسية السهر ووحدة الليل.
ذات ليلة شتوية، انقطعت الكهرباء عن الحي بأكمله. ساد صمت مطبق وغاب ضجيج المدينة المعتاد. خرجت سارة إلى الشرفة مستاءة من توقف عملها، لتجد يحيى واقفاً في الجهة المقابلة، يراقب النجوم التي ظهرت بوضوح بعد انطفاء أضواء الشوارع. في ذلك السكون، كسر يحيى حاجز الصمت وقال بصوت هادئ: "يبدو أن الليل قرر أن يرغمنا على التأمل قسراً الليلة!". ضحكت سارة، وكان صدى ضحكتها العفوي في سكون الليل هو أول جسر حقيقي يُبنى بينهما.
حديث الظلال والواقع
تكررت الأحاديث الليلية من شرفة إلى أخرى. اكتشفا أنهما لا يتشاركان السهر فقط، بل يتشاركان الهرب من صخب النهار. حكى لها عن ثقل المسؤولية في مهنته، وحكت له عن شغفها بربط الشعوب عبر الكلمات. تحولت تلك اللقاءات "عن بُعد" إلى روتين يومي ينتظره كلاهما بلهفة تفوق خيال القصص الرومانسية. لم تكن الكلمات كثيرة، لكنها كانت صادقة تماماً كصدق الليل.
تطورت العلاقة بشكل واقعي؛ بادر يحيى بترك رسالة في صندوق بريد بنايتها مع باقة ورد بسيطة، يدعوها فيها للقاء حقيقي تحت ضوء الشمس. في ذلك اللقاء، كان الارتباك سيد الموقف؛ فملامحهما التي اعتادا رؤيتها في ظل العتمة بدت أكثر وضوحاً وحيوية. اكتشفا أن الحب الذي نبت في هدوء الليل يمتلك جذوراً قوية تستطيع الصمود أمام ضجيج النهار ومشاغل الحياة القاسية.
النهاية: شرفة واحدة
انتهت الحكاية بقرار شجاع لتوحيد المسافات. لم تعد هناك بنايتان يفصلهما شارع، بل بيت واحد وشرفة واحدة واسعة تجمع شتلات ياسمين سارة وكتب يحيى. أدركا أن "حب الليالي" لم يكن مجرد صدفة عابرة، بل كان قدراً صُنع ببطء، ليؤكد أن أجمل الأشياء قد تولد في أكثر الأوقات عتمة، وأن الحب الصادق لا يحتاج إلى أضواء مبهرة ليُرى، بل إلى قلبين يتقاسمان نفس النغمة في صمت الليل الطويل.