الحب الذي فلق الجبل

الحب الذي فلق الجبل

0 المراجعات

في الهند غرائب وعجائب كثيرة ، لعل أشهرها وأكثرها التصاقا بالأذهان هو ضريح “تاج محل” الذي اختير قبل بضعة سنوات كأعجوبة من عجائب الدنيا السبع الجديدة ، وتاج محل لمن لا يعرفه هو ضريح مهيب شيده الامبراطور المغولي شاه جهان لتخليد ذكرى زوجته الراحلة ممتاز محل التي كان يكن لها حبا عظيما ، فجاء بناءه عظيما على قدر ذاك الحب ، وازدان بهاءا فوق بهائه بحكاية الإخلاص والوفاء التي جمعت بين الزوجين ، لا عجب بعد ذلك أن يصبح قبلة للسواح يتوافدون إليه من مختلف بقاع الأرض ليكحلوا أعينهم برؤية جدرانه وقبابه العاجية البيضاء.

الحب الذي فلق الجبل

تاج محل .. اعجوبة من عجائب الدنيا

لكن ما لا يعلمه معظم الناس ، أن الهند تضم بين جنباتها تحفة أخرى مشابهة لـ “تاج محل” من حيث المعنى والمغزى ، فهي الأخرى من صنع رجل أحب زوجته حبا جما وأراد تخليد ذكراها بصرح لا يمحو آثاره تعاقب الأيام والسنين ، صحيح أنه ليس بروعة تاج محل ، ولا يضاهيه من حيث دقة الصنعة وبديع المنظر ، لكنه أنصافا لا يقل عنه من حيث عظمة الإنجاز لو أخذنا بالحسبان الإمكانات المتواضعة لصانعه ، فهو لم يكن سلطانا ، ولا غنيا ، ولم يمتلك حاشية وخدم وحشم ، بل كان إنسانا بسيطا ، أسمه “داشراث مانجي” ، لم يمتلك من بهرج الدنيا وزخرفها سوى كوخ متواضع ، وفأس قديمة صدئة ، وأربع نعجات عجاف .. لكنه لم يكن فقيرا كما قد تظن وتحسب عزيزي القارئ ، فالفقير هو من يقارن نفسه بالآخرين فتتقطع نفسه حسرات لأنه لا يملك ما يملكون ، أما الغني فهو القنوع الذي لا ينظر إلا لما بين يديه ، يرضى برزقه ، ويشتري راحة البال بقلة المال. وصاحبنا كان من النوع الأخير ، قنوع بما آتاه ربه ، لا يتذمر ولا يشكو ، بل تراه منشرح الصدر دائم الأبتسام ، وهذا الأمر كان مدعاة استغراب جيرانه وزملاءه في منجم الفحم الذي يعمل فيه ، لأنه أشدهم فقرا ، وأقلهم منزلة ، كونه ينتمي إلى طبقة المنبوذين التي تقبع في أسفل السلم الطبقي الهندوسي .. ومع هذا هو سعيد مغتبط ، فما سره ؟ ..

الحب الذي فلق الجبل

كان الناس يضطرون لاجتياز منحدرات وعرة للوصول للمدينة

في الحقيقة لم يكن ثمة سر ، كان الأمر في غاية البساطة ، فصاحبنا أمتلك ثروة قلما أمتلكها الآخرون ، ليست ذهبا ولا ماسا أو ياقوت ، بل زوجة صالحة جميلة ، وفية وقنوعة ، وحريصة أشد الحرص على راحة زوجها وأطفالها ، فكانت مصدر سعادته ، وسر غبطته ، والنور الذي تكتحل به عيناه.

لكن من حقائق الحياة المرة ، أن لاشيء يدوم فيها ، فلكل شيء خاتمة ونهاية ، حتى سعادة صاحبنا “داشراث” على بساطتها وضآلة شأنها . فذات يوم ذهب “داشراث” للعمل في منجم يقع عند أطرف بلدته حيث توجد بعض الجبال والتلال الصخرية ، وكان من عادة زوجته أن تحمل إليه الطعام والماء كل يوم وقت الغداء ، وبينما هي في طريقها إليه تتأبط آنية الطعام الفخارية إذ انزلقت قدمها على احد المنحدرات الصخرية فتدحرجت إلى اسفل التل واصيبت إصابة بالغة ، فحملها الناس إلى منزلها وهي تنزف.

وحينما عاد ” داشراث ” من عمله فوجيء بزوجته طريحة الفراش ومثخنة بالجراح ، كانت حالتها سيئة ، وكان يجب نقلها فورا للمستشفى لتلقي العلاج ، لكن يوجد جبل عال يفصل بين بلدة غاهلور الصغيرة حيث يعيش “داشراث” والمدينة الكبيرة حيث يقع المستشفى ، وللاستدارة حول الجبل كان يلزم السير في مجازات وعرة لمسافة 70 كيلومترا ، وعليه فقد تعذر وصول الأسعاف ، و تعذر نقل الزوجة ، وما لبثت أن لفظت أنفاسها في اليوم التالي.

موت الزوجة الحبيبة شكل صدمة عظيمة زلزلت كيان “داشراث” وقلبت حياته رأسا على عقب ، فغرق في حزن عميق ، واعتكف في منزله منقطعا عن الناس ، وظل على هذه الحال لأيام ، بالكاد يأكل أو يشرب ، ويمضي وقته بالبكاء ..

لكن ذات صباح ، فوجئ الجيران بـ “داشراث” يخرج من منزله وهو كث اللحية منكوش الشعر ، حاملا فأسه على كتفه ، ومتوجها صوب الجبل الذي يفصل البلدة عن المدينة الكبيرة ، وحين سألوه : إلى أين تذهب ؟ .. أجابهم قائلا بأنه ذاهب ليلقن الجبل درسا لأنه منع إسعاف زوجته وتسبب في موتها! .. فهزوا رؤؤسهم أسفا على الرجل وظنوا أنه فقد عقله جراء صدمة موت زوجته.

الحب الذي فلق الجبل

قرر ان يشق طريقا في الجبل باستعمال فأس فقط

لكن “داشراث” لم يكن مجنونا كما حسبوا ، كانت لديه خطة ، لعلها مجنونة بعض الشيء ! لكنها بالنهاية فكرة آمن بها وعمل على تنفيذها مهما تكلف الأمر ، فالرجل أراد أن يشق طريقا في قلب الجبل لكي يربط بين بلدته النائية والمدينة الكبيرة حيث توجد المستشفيات والمدارس والمكاتب الحكومية والوظائف .. قال بأنه لا يريد أن تواجه سيدة اخرى نفس مصير زوجته بسبب تعذر نقلها للمستشفى ، ولا يريد لأطفال بلدته أن يظلوا بدون تعليم بسبب تعذر الوصول للمدارس ، ولا يريد لشبابها أن يظلوا عاطلين عن العمل بسبب تعذر الحصول على وظائف .. فالطريق التي خطط “داشراث” لشقها في قلب الجبل كانت ستختصر المسافة إلى المدينة من 70 كم إلى 15 كم فقط ، وكانت ستسهل على الناس الوصول إلى المستشفيات والمدارس والوظائف في المدينة.

بالتأكيد كان هدف “داشراث” ساميا ونبيلا ، لكنه أيضا بدا مستحيلا من جميع الوجوه ، لا عجب أن صار الرجل أضحوكة بلدته ومحل سخرية وتندر أهلها ، إذ كيف لرجل نحيل وفقير لا يملك سوى فأس صدئة أن يشق طريقا في قلب الجبل ؟ .. بيد أن السخرية لم تثني “داشراث” عن المضي في مشروعه ، بل زادته إرادة وتصميم ، حتى أنه باع نعاجه الأربع ليشتري بثمنها أزاميل يدق بها الصخر ..

ومضت الأيام والشهور والسنين ، و”داشراث” مواضب على الذهاب إلى الجبل كل ليلة للعمل في شق الطريق ، أما النهار فكان يقضيه في حرث حقول الآخرين للحصول على بعض المال من أجل إعالة أبناءه وعائلته.

الحب الذي فلق الجبل

استغرق “داشراث” 20 غاما لشق الطريق في الجبل .. واستغرقت حكومة الهند 30 عاما لتعبيده!! ..

وبالتدريج تحول ذلك الثلم الصغير الذي عمله “داشراث” في قمة الجبل إلى حفرة كبيرة ، وتحولت الحفرة إلى هاوية ، والهاوية إلى شق عظيم .. وتحولت معها ضحكات الناس وسخريتهم إلى ذهول وتعجب وانبهار ، وصار البعض منهم يجلب الطعام إلى “داشراث” ، وآخرون يمدونه بالأزاميل والمطارق ..

 

وبالنهاية تحول الحلم المستحيل إلى حقيقة ماثلة للعيان ، نجح “داشراث” في فلق الجبل وشق قلبه الصخري بطريق عمقه ثمانية أمتار وطوله 110 متر . لكن الأمر لم يكن سهلا ، ولم ينجز بين ليلة وضحاها ، بل أستغرق 22 عاما من العمل المضني المتواصل ، إذ شرع “داشراث” بالعمل عام 1960 وأنتهى منه عام 1983.

الحب الذي فلق الجبل

تحول الى شخصبة عامة وبطل قومي .. لكنهم رفضوا ان يكرموه في حياته لأنه من المنبوذين

 

وهكذا فأن الرجل الذي قالوا عنه مجنون ، وتندروا على فقره وفاقته ، ونظروا إليه بدونية .. تحول إلى أسطورة قومية ، وأعجوبة من عجائب الهند ، وصار مثلا يحتذى به في الإيثار والتضحية في سبيل الصالح العام.

“داشراث مانجي” مات عام 2007 … رحل “رجل الجبل” كما أطلقوا عليه ، لكن جبله مازال باقي ، وسيبقى إلى الأبد يحكي للعالم قصة رجل لم يمتلك سوى قلب ينبض بالحب وإرادة حديدية ليحول بها المستحيل إلى واقع.

ختاما ..

أتمنى لو يوجد أناس كثيرون على شاكلة السيد “داشراث” في عالمنا هذا ، يؤثرون الصالح العام على أنفسهم ، لكنهم عملة نادرة ، وربما لا وجود لهم ، شخصيا معظم الذين عرفتهم طوال حياتي ، وأنا في مقدمتهم! ، كانوا دائمي الشكوى والتذمر من أن حقهم مغبون ، فهم يريدون كل شيء جاهزا ، تعليم مجاني ، وظائف جيدة ، شقق جاهزة ، وقود رخيص ، شوارع معبدة ، أرصفة نظيفة الخ .. لكنهم بالمقابل غير مستعدين لبذل أي شيء في سبيل الصالح العام ، ولو طلبت من أحدهم أن يتطوع في تنظيف الشوارع والأرصفة مثلا ، لثار في وجهك صارخا بأنها وظيفة الحكومة وليست وظيفته ، وبأنه غير مستعد لأن يوسخ ملابسه من أجل “شلة لصوص” يسرقون البلد ، وأنا قد أتفق معه في مسألة اللصوص ، لكني أختلف معه في أن العمل التطوعي العام لا شأن له بـ “حكومة اللصوص” بقدر ما هو متعلق بواجبنا والتزامنا تجاه وطن تعودنا أن نلهج بحبه باللسان فقط ، وما لم نبدأ بتغيير أنفسنا وترويضها على العطاء والتضحية دون مقابل ، فأن حكومة “اللصوص” لن تتغير يوما ، وستبقى رابضة على صدورنا إلى الأبد.

المصادر :

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

12

متابعين

5

متابعهم

0

مقالات مشابة