
المعاناة النفسية و الضغوط التي نحدث للشباب
يمرّ الشباب اليوم بحالةٍ نفسية معقّدة، مزيج من قلقٍ دائم وضياعٍ داخلي، حتى ليبدو الواحد منهم وكأنه يسير في متاهةٍ لا مخرج لها. إنهم يعيشون تحت وطأة ضغوطٍ متشابكة تبدأ من غياب الاستقرار الاقتصادي وتنتهي عند فقدان الطمأنينة الروحية. البطالة، على سبيل المثال، ليست مجرد غيابٍ عن العمل، بل هي غياب عن المعنى ذاته. يشعر الشاب أنه بلا جدوى، أن سنوات دراسته الطويلة وأحلامه العريضة تتبخر أمام عينيه، فلا يجد سوى فراغٍ يزداد اتساعًا في داخله. كل صباح، يستيقظ مثقلاً بأسئلةٍ وجودية: ماذا ينتظرني؟ إلى أين أسير؟ وهل لحياتي معنى في مجتمعٍ لا يترك لي مساحة لأتنفس؟
ذلك القلق من المستقبل ليس هاجسًا عابرًا، بل هو ظلٌّ ثقيل يرافق الشباب أينما ذهبوا. إنهم يعيشون بين أحلامٍ كبيرة تتقد في صدورهم وبين واقعٍ يفرض عليهم حدودًا قاسية، فيتولد صراعٌ داخلي يمزق الروح: أأستسلم لما يفرضه المجتمع من قيودٍ اقتصادية واجتماعية، أم أواصل الركض وراء حلمٍ يبدو بعيدًا حدّ السراب؟ وفي هذه اللحظات يتبدى لهم المستقبل كغرفةٍ مظلمة بلا أبواب، مجرد مساحة فارغة يملؤها الخوف وانعدام الأمل.
يزيد من ثقل هذه المعاناة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي تحاصر عقول الشباب وأعينهم ليل نهار. هناك، حيث تكثر الصور اللامعة والابتسامات المصطنعة والنجاحات المبالغ فيها، يجد الشاب نفسه في مقارنةٍ دائمة، يقيس ذاته بمقاييس زائفة. ومع كل مقارنةٍ يخسر شيئًا من ثقته بنفسه، ومع كل صورةٍ مثالية يراها، يتسلل إليه إحساسٌ بالنقص، وكأنه دائمًا أقل من الآخرين، دائمًا متأخر عن الركب. وهكذا تتحول هذه المنصات من فضاءٍ للتواصل إلى مرآةٍ قاسية تفضح هشاشته وتضاعف جراحه الداخلية.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل قد يجد الشاب نفسه محرومًا حتى من أبسط أشكال الدعم النفسي، فلا أسرة تستوعب قلقه، ولا مجتمع يفهم معاناته. كم من شابٍ يصرخ بصمتٍ داخلي لا يسمعه أحد! وكم من روحٍ يافعة تذبل لأنها لم تجد من يمد لها يد العون! الوحدة، في مثل هذه اللحظات، تتحول من مجرد عزلةٍ مؤقتة إلى سجنٍ خانق، يضاعف الإحساس بالاغتراب ويعمّق الجرح النفسي.
كل هذه التحديات تصهر روح الشباب في بوتقةٍ من الصراع المستمر، بين ما يريدونه حقًا وبين ما يُفرض عليهم. هناك دائمًا فجوة مؤلمة بين طموحاتهم التي تلامس السماء وواقعهم المثقل بالقيود. إنهم يعيشون معركة يومية غير مرئية، يبتسمون في الوجوه لكن داخلهم عاصفة، يضحكون في المجالس بينما صدورهم تضجّ بأسئلةٍ موجعة.
المعاناة النفسية التي يمر بها الشباب ليست مجرد تجربة فردية، بل هي أزمة وجودية تُشكّل ملامح جيلٍ بأكمله. جيل يبحث عن معنى، عن أملٍ حقيقي، عن يدٍ تمتد نحوه في هذا العالم البارد. وربما تبقى أعظم مأساة أن كثيرين منهم لا يبوحون، بل يختبئون خلف أقنعة الصمت، فيما قلوبهم تتآكل ببطء. إنهم يعيشون، لكنهم في العمق يقاتلون معركة صامتة، معركة تستحق أن نسمعها ونفهمها قبل أن يخسروا أنفسهم في زحام الحياة.لكن، رغم قسوة هذه المعاناة، يظلّ في داخل الشباب بذرة صغيرة من نور، شعلة لا تنطفئ مهما اشتدت العواصف. قد يتعثرون، قد ينهارون لحظة، لكنهم سرعان ما ينهضون ليبحثوا عن معنى جديد لحياتهم. فالمعاناة، مهما طالت، ليست قدرًا أبديًا، بل طريقًا نحو وعي أعمق، نحو قوةٍ تصنع منهم جيلًا قادرًا على التغيير.
إن معاناة الشباب اليوم ليست حدثًا عابرًا، بل هي انعكاس لأزماتٍ عميقة يواجهها جيل بأكمله. ومع ذلك، تبقى في داخلهم قوة خفية تنتظر من يوقظها، وأمل صغير قادر على أن ينمو إذا وُجد الفهم والدعم. فالشباب، رغم كل ما يثقل أرواحهم، يملكون القدرة على تحويل الألم إلى طاقة، والضياع إلى بداية جديدة، إذا منحهم المجتمع مساحة للحرية والاحتواء.