
السماء لا تتسع لنا -الفصل العشرون( الكاتبة:علا إبراهيم)
كانت لينا جالسة أمام التلفاز، تمسك بالهاتف بين يديها، بينما ابنها "أسر" يلعب أمام عينيها ببراءة. وعلى الطرف الآخر من الغرفة كان زوجها رامي يجلس أمام الحاسوب والأوراق، منهمكًا في إنهاء عمله. فجأة قطعت لينا صمتهما بصوت مصدوم:
ـ الحق يا رامي! فاروق القناوي اتجوز!
رفع رامي رأسه قليلًا وهو ما زال يثبت نظره على الأوراق، وقال بتأكيد:
ـ آه… متجوز البنت اللي قصادنا دي.
هزّت لينا رأسها بسرعة، وصوتها يعلوه الذهول:
ـ لا… دي واحدة تانية خالص!
أمسكت الهاتف بيد مرتجفة، وعيناها تتسعان وهي تريه الأخبار المنتشرة وصور فاروق بصحبة سيدرا، وقد ملأت الصحف والمواقع.
مدّ رامي يده، أخذ الهاتف منها، وراح يقرأ الخبر مرارًا وتكرارًا، كأنه يتأكد أكثر من مرة. خلع نظارته فجأة، ثم رفع رأسه نحو زوجته وقال بدهشة:
ـ دا اتجوز على البنت "أروى" اللي قصادنا!
اشتعل الغضب في عيني لينا، وقالت بحرقة:
ـ آه، شوفت بقى؟ بتاع البنات الواطي! عاملها فرح ومقعدها في قصره، ومخلي الدنيا كلها تعرف إنه اتجوزها… كل دا عشان هي بنت الأرجواني! إنما "أروى" لا… كل يوم والتاني ييجي عندها ويذلها إنه هيطلّقها!
أجابها رامي وهو ما زال محتفظًا بهدوئه الظاهر:
ـ استني يا لينا… لو عايز يطلقها، توافق أحسن ما تفضل معاه.
صرخت لينا بغضب وهي تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا، تكاد تنفجر:
ـ ليه بقى؟ هي لعبة في إيده؟ دا اتجوزها كمان بنفس الأسلوب!
تنهدت لينا بضيق، وقالت:
ـ لا لا يا رامى… الواد دا مش سهل.
رد رامى ببرود ظاهرى:
ـ مش سهل على نفسه… وملناش دعوة. يا لينا، دا جوزها وهي مراته، بيعمل فيها كدا تتطلق منه.
جلست لينا بجواره متسائلة:
ـ تفتكر هي قرأت الخبر دا؟
رد عليها بتلقائية وهو يعيد النظر إلى أوراقه:
ـ أكيد… مش نازل في كل المواقع؟
سكتت لينا قليلًا، وتذكرت حديث "أروى" عن فاروق، وتذكرت اعترافها بأنها تحبه، وكيف كانت حزينة حين تخيلت أنه قد يتركها بعد حبها. راحت تسأل نفسها: هل تذهب إليها وتخبرها بالخبر لتدفعها إلى الطلاق؟ لكنها عادت وتذكرت أن أروى بنفسها اعترفت أن فاروق هو من أعطاها تلك الشقة.
قالت في سرها بإصرار: “مش مهم الشقة… تيجي تقعد معايا. لكن هل فاروق القناوي هيسيبها؟ هل لو قلتلها الخبر دا هأنهي كل آمالها وحتى حبها؟ يمكن ربنا عمل كده معاها عشان تعلي بنفسها.”
خرجت من أفكارها ونظرت إلى رامي قائلة بتردد:
ـ أنا مش عارفة أعمل إيه يا رامي… أنا لازم أروح لها.
أجابها رامي بصرامة:
ـ ملناش دعوة يا لينا. إذا هو ما قالهاش، ملناش احنا دعوة.
رفعت حاجبيها بمرارة:
ـ وهو عمره هيقولها؟
تطلع إليها رامي وهو يقول بحدة:
ـ وإنتِ بقى هتروحي تقوليلها؟
أجابت بنفاذ صبر:
ـ لا… أنا أصلًا مش عايزة أقولها. أنا هعمل الأحسن من كده.
ارتفع صوت رامي محذرًا:
ـ لو روحتي يا لينا… ما تلوميش إلا نفسك.
توقفت لينا عند الباب وقد فتحته بالفعل، لكنها أغلقتْه سريعًا ما أن سمعت صراخة واستدارت نحوه بغضب:
ـ إيه يا رامي؟ مالك؟ من إمتى وإنت بتتعامل معايا كده؟
قال بصوت غاضب مكبوت:
ـ من دلوقتي يا لينا… لأنك مهتمة بالبنت دي وناسياني أنا وابنك. طول اليوم معاها، وعايزة تفضلي تحكي لها عن جوزها فاروق القناوي، اللي بيعمل كل اللي هو عايزه ومش فارق معاه الناس واللي حواليه. دا مش بعيد كمان الحكومة عارفة إنه متجوز اتنين . احنا مالنا ومالهم!
صرخت لينا بانفعال:
ـ يعني عايز البنت حقها يضيع يا رامي؟
رد عليها ببرود يخفي غضبه:
ـ واحنا هنعمل إيه؟ ما اللي اتجوزها التانية دي أكيد متعرفش إنه متجوز اللي قصادنا عليها! وهو اللي بيعمل كده… اعترضي بقى يا لينا، اعترضي معاه!
قالت بلامبالاة ظاهرة:
ـ هيعمل إيه يعني؟
أجابها رامي متحسرًا:
ـ لا ولا هيعمل حاجة… مفيش. بس إلا إنه يخرجنا من المخروبة اللي عايشين فيها دي، ويقطع عيشي في الشغل. شوفتِ بقى؟
رفعت لينا رأسها بإيمان عميق وقالت:
ـ ولو حتى عمل كده… ربنا مش بيسيب حد. لكن ربنا فعلًا يزعل مننا لما يشوفنا ساكتين على خبر زي ده… وخدعنا اللي قدامنا دي.
قال لها رامي ببرود، بينما داخله يغلي:
ـ لو مشيتي دلوقتي وروحتي لها… يبقى تاخدي ابنك معاكي.
نظرت إليه بصدمة، وقالت بصوت متهدج:
ـ إنت بتطردني يا رامي؟ دي أول مرة تعملها.
استدار رامي وأدار لها ظهره، صامتًا.
امتلأت عينا لينا بالدموع، والحزن ينهش قلبها. حملت طفلها بضعف، وخرجت مسرعة. وقفت على السلم قليلًا تمسح دموعها وتتنفس بعمق، مترددة: هل تدق الباب على أروى أم تعود أدراجها؟ وأخيرًا، رفعت يدها وطرقت عدة خبطات.
فتحت أروى الباب سريعًا، وبمجرد أن رأت لينا حتى ابتسمت لها ابتسامة واسعة، وأخذت منها الطفل "أسر" تحمله بين ذراعيها بحنان، ثم أدخلتها على الفور.
السماء لا تتسع لنا

سألتها لينا بقلق:
ـ عاملة إيه يا أروى دلوقتي؟
ابتسمت أروى ابتسامة واسعة وقالت:
ـ الحمد لله… كويسة.
ترددت لينا ثم سألتها:
ـ جوزك جالك؟
ضحكت أروى بخفة وقالت:
ـ قصدك فاروق؟ لا… مجاليش. أنا حتى رنيت عليه خمس مرات، ومافيش أي رد.
سكتت لينا، وقالت في عقلها بمرارة:
ـ أكيد… ما ردش. النهاردة هو دخلته على عروستة التانية.
جلست لينا متأملة وجه أروى للحظة، ثم سألتها فجأة بنبرة مملوءة بالاهتمام:
ـ هو إنتِ كملتي تعليمك… أو وصلتي لحد فين؟
تفاجأت أروى بالسؤال، وبدت عليها علامات الحرج، فابتلعت ريقها وهمست بتوتر:
ـ ما دخلتش امتحانات تالتة ثانوي.
نظرت إليها لينا بعطف وحنان، ثم مالت بجسدها نحوها وقالت بصوت مشجع:
ـ أروى… أنا اعتبريني أختك الكبيرة يا حبيبتي. أنا هقدملك في تالتة ثانوي السنة دي، ولازم تتعلمي وتدخلي أعلى كلية، عشان متحتاجيش لفاروق ولا لغيره.
اتسعت عينا أروى بذهول، وقالت باندهاش:
ـ بجد؟ أقدم في تالتة ثانوي عادي؟
ابتسمت لينا وأجابت بحزم لطيف:
ـ آه… أكيد عادي. وعايزاكي متديش لفاروق ده وش، وتعامليه بجديّة… إلا لو لقيتيه اتغيّر فعلًا. وكمان تقولي له يدخلِك لو عايزة "طب بالفلوس".
ضحكت أروى بخفة وهي تجلس بجوارها:
ـ وأنا هدخل إيه؟
أجابت لينا بلهجة حاسمة مشوبة بالأمل:
ـ تدخلي أعلى كلية… وتذاكري كويس. باقي شهور قليلة على الامتحانات، وأنا عايزة أقدملك بسرعة السنة دي، مش السنة الجاية. وخليه يصرف عليكي كل فلوس التعليم.
وضعت أروى يدها على صدرها كمن لا يصدق، وقالت بفرح طفولي:
ـ أنا مش مصدقة إني ممكن أكمل وأبقى في كلية!
اقتربت أكثر وجلست بجوار لينا تحتضن يديها بامتنان وهمست:
ـ أنا فرحانة أوي… شكراً جدًا يا لينا على كل حاجة.
ابتسمت لينا بدفء وقالت:
ـ مفيش شكر ما بينا يا خايبة، إنتي بقيتي أختي الصغيرة.
ثم ساد صمت قصير، تبعته بنبرة أعمق:
ـ ولو عايزة تطلبي الطلاق من فاروق ده، تيجي تقعدي معايا عند بيت أهلي… يلا، أنا رايحة.
فتحت أروى عينيها بدهشة وقالت:
ـ إيه؟ إنتي هتسيبي أبيه رامي وتروحي؟
هزّت لينا رأسها بحزن:
ـ آه.
سألتها أروى باستغراب حزين:
ـ ليه كده بس؟
صمتت لينا قليلًا، ثم ترددت قبل أن تجيب:
ـ مفيش… سيبك إنتي من رامي دلوقتي. قولي لي: إيه رأيك تيجي معايا؟
هزت أروى رأسها رفضًا وقالت بجدية:
ـ لا… مش هتسيبي "أبيه" رامي. وبعدين فاروق ما عملليش حاجة… ومش بييجي أصلاً. أهو أنا قاعدة.
ثم أمسكت يد لينا برفق وأكملت بعناد رقيق:
ـ مش أنا زي أختك الصغيرة؟ قوليلي بقى الحقيقة: ليه هتسيبي "أبيه" رامي؟ إنتوا زعلتوا؟
تنهدت لينا بضيق، وقالت بنفاذ صبر:
ـ يووة يا أروى… أبيهك رامي خلاص شاف نفسه عليّا. ولازم أمشي دلوقتي عشان ما ينفعش أقعد… فهمتيني؟
هزّت أروى رأسها بعدم تصديق، وقالت بإصرار:
ـ لا طبعًا! "أبيه" رامي بيحبك جدًا. وأكيد في حاجة غلط. أنا هروح له!
ارتبكت لينا بسرعة، وأمسكت يديها تعيدها إلى مكانها قائلة بخوف:
ـ لا يا أروى، أوعي تعملي كده!
كانت تخشى أن يخبر رامي أروى بزواج فاروق، أو يجرحها، خاصة أن كل المشكلة كانت بسببها من وجهه نظر رامى. وقفت لينا فجأة تكاد تهرب من الموقف، وقالت وهي تلتقط أنفاسها:
ـ أنا لازم أمشي دلوقتي.
تمسكت أروى بيدها أكثر، وضغطت عليها بقوة، وقالت بعاطفة جياشة:
ـ هتمشي… وتسيبيني؟