
السماء لا تتسع لنا -الفصل السادس عشر (الكاتبة علا إبراهيم)
توقف فاروق أمام منزله على عجل، قلبه يخفق بشدة حين وقعت عيناه على سيارات الشرطة تحيط بالمكان. انقبض صدره أكثر عندما لمح من بعيد ضابطًا كبير السن يقف داخل الصالة، يتحدث إلى خالته روما التي كان الشحوب قد سرق لون وجهها.
تقدم بخطوات ثابتة رغم الارتباك الذي بدأ يتسلل إلى أعماقه، وعيناه تتنقلان بين الضابط وروما قبل أن ينطق بنبرة تحمل استنكارًا واضحًا:
— نعم؟ حضرتك عايزنا إحنا؟
اعتدل الضابط في وقفتة، ينتبهه لفاروق، ثم قال بصوت هادئ:
— فاروق بيه، أنا سمعت إن زفافك النهاردة على الآنسة سيدرا.
هز فاروق رأسه مؤكدًا، نبرته لا تخلو من حدة:
— أيوة… ودي فيها إيه؟
حمحم الضابط قليلًا، ثم اقترب خطوة:
— من يومين، في آنسة اسمها أروى عبد الرحمن كانت مقدمة فيك بلاغ… وحضرتك قلت إنها مراتك.
تجمد فاروق لثوانٍ، ابتلع ريقه في بطء، وأجاب بتفاجؤ:
— أيوة.
لكن قبل أن يلتقط انفاسة، خرج عقيد من خلف مجموعة من الضباط، وعيناه تلمعان بحقيقة واضحة:
— آه… يعني حضرتك هتتجوز اتنين؟ ولا البنت أروى معاها حق؟
فى البداية تفاجأ فاروق بانة، نفس العقيد الذي كان بالمكتب وقت بلاغ اروى في ذلك اليوم
أدرك على الفور أن هذا الرجل هو من يقف خلف البلاغ. صمت للحظات، وغصبًا عنه طافت أمامه صورة أروى وهي تتحدث بضعف مع ذلك العقيد، ونظرات ذلك الظابط لها. ضاق صدرة أكثر و أدخل يديه في جيوب بنطاله، وتحدث بثقة:
— أيوة، البنت اللي قدمت البلاغ… تبقى مراتي. وإيه سؤالك اللي جاي بيه لحد بيتي؟
اغتاظ العقيد من ثقتة وبرودة تقدم منه خطوة، وصوته لا يخلو من الاتهام:
— سؤالي هو… إني عرفت إن البنت دي كانت بتشتغل هنا خدامة. ومش بس كده، حضرتك ما أشهرتش جوازك بيها، وهي نفسها ما كانتش تعرف حاجة عن الجواز ده. وتاني يوم… هتتجوز سيدرا هانم من عيلة مشهورة. يبقى البنت كان معاها حق يا فاروق بيه.
ضغط فاروق على فكيه، وعيناه تضيقان في غضب وهو يحدق بالضابط الغليظ:
— وأنا أعتقد إنك شوفت ورقة الجواز. أما بقى أتجوز اتنين أو تلاتة، أشهر جوازي على واحدة ومشهروش على التانية… كل ده إنت مش مطالب تعرفه، لأن دي حياتي الشخصية، وأنا حر فيها.
بدت علامات الغيظ على وجه العقيد، وقد أيقن في داخله أن الفتاة مظلومة. قال بنفاذ صبر:
— خلاص، يبقى نجيب أروى وتعترف إنها مراتك فعلًا… وإنك مش مهددها.
فار الدم في عروق فاروق، وصوته ارتفع وهو يزمجر:
— نجيب مين؟! إزاي تقول "أروى"… اسمها مدام أروى، مرات فاروق القناوي!
التفت الضابط الكبير نحو العقيد بنظرة تحذير، مذكرًا إياه بمقام من يتحدث إليه. أما فاروق، فأكمل بحدة:
— وقريب جدًا هخليها تقولك إنها مراتي… وإن اللي حصل سوء تفاهم.
قال الضابط الكبير بنبرة حاسمة قبل أن يستدير للمغادرة:
— وصدقني… أول ما ده يحصل، القضية هتتقفل.
خرج الضابط الكبير، ولحقه العقيد بعد أن ألقى نظرة طويلة نحو فاروق، نظرة تحمل في طياتها تحديًا صامتًا. أما فاروق فثبت واقفًا، ملامحه باردة متحدية من الخارج، بينما في داخله كان الغليان يلتهمه.
ما دخله هو بأروى؟! تساءل في أعماقه وهو يراقب الباب يُغلق خلفهم.
جلس بثقل على الأريكة، رأسه بين كفيه، لا يعلم من أين يبدأ أو إلى أين ينتهي هذا الأمر.
روما، التي كانت تتابع المشهد بقلق وارتباك، انفجرت في كلام متلاحق:
— هنعمل إيه يا فاروق؟ يعني خلاص؟ لا، أكيد لأ… البنت دي هتطلقها، وقبل ما ده يحصل، نديها شوية قرشين وتروح قدام الحكومة تقول إنها مراتك… ونخلص بقى.
رفع فاروق رأسه ببطء:
— روما… أنا مش هطلق أروى.
اتسعت عيناها في ذهول، وجلست بجواره بقلق:
— إيه اللي في دماغك يا فاروق؟ إنت واعي إنت بتقول إيه؟! إنت لازم تطلق البت دي.
رد بلهجة قاطعة، لا تحتمل نقاشًا:
— زي ما سمعتي… مش هينفع أطلقها.
— فاروق، قولّي إيه اللي في دماغك، ما تسيبنيش كده في تفكيري!
تجمد نظره للأمام، وصوته خرج متمهلًا وحازمًا:
— مفيش غير حل واحد… عشان سمعة العيلة. والحقيقة أن داخلة لا يهمه سمعة العائلة ولا يهمه حديث الناس،ما يشغلة هو ذكر ذلك العقيد لاروى جعل داخلة يشتعل مرة أخرى.
مالت نحوه بحماس، مترقبة ما سيقوله، فأكمل:
— إني أخليها تحبني… وتروح للضابط بنفسها تعترف بكده.
صدمتها الفكرة، فتراجعت قليلًا وهي تقول:
— هاا؟! بس أشمعنا الحل ده؟ وليه تخليها مراتك بعد جوازك من سيدرا؟
نهض فاروق وقد عقد العزم، كلماته تخرج بثبات:
— عشان مفيش غير الحل ده. أنا هروح دلوقتي ليها…
توقف لحظة، وتذكر كلماته التي اوجعتها من قبل، فتنهد طويلًا قبل أن يضيف:
— … وبعدها هحضّر نفسي للفرح.
السماء لا تتسع لنا

فتح فاروق باب منزل أروى، فاستقبله صمت ثقيل يخيّم على المكان، وهدوء كأن الحياة قد انسحبت منه. أغلق الباب خلفه بخطوات مترددة، وتقدّم قليلًا إلى الداخل، قبل أن يتفاجأ بفتاة لم يرها من قبل تخرج من إحدى الغرف.
تنحنحت بخفوت وقالت وهي تحاول الابتسام:
“أنا لينا… اللي ساكنة قصادكم، وجيت أطمن على أروى.”
اكتفى فاروق بهزّ رأسه، لتكمل هي بنبرة يختلط فيها الضيق بالحزن:
“هي كانت زعلانة قوي… ولسه نائمة من شوية.”
لكن حين قابلت صمته الغامض، لم تفهم إن كان حزنًا عليها أم شيئًا آخر. تعجبت من بروده، ثم استوعبت أن وجودها لم يعد له داعٍ، فتمتمت بحرج:
“عن إذنك.”
تحركت بخطوات مترددة، ومرت بجواره متجهة نحو الباب. فتح لها فاروق الطريق، وغادرت لينا، بينما تردد هو لحظة قبل أن يتجه نحو الغرفة التي ترقد فيها أروى. ومع ذلك، دخل في النهاية… فهي في الأساس نائمة.
الكاتبة: علا ابراهيم