وقعت في حب مصاص دماء 2

وقعت في حب مصاص دماء 2

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

✦ الفصل الثاني – الهمس في الظل

كانت السماء ملبّدة بالغيوم، والهواء يحمل برودة غريبة لا تشبه نسمات الخريف المعتادة.
في ذلك الصباح، جلست نورا في مقعدها الأخير داخل القاعة، تُحاول التركيز في المحاضرة، لكن ذهنها كان في مكانٍ آخر.
كلّما تذكّرت نظرات ذلك الطالب الجديد — نور — شعرت بشيء يضطرب داخلها، مزيج من الخوف والفضول لا تستطيع تفسيره.

كان يجلس في الصف الأمامي، هادئًا، كعادته، لا يلتفت لأحد، لكنّ حضوره كان يملأ المكان.
هناك ما يميّزه عن الجميع… في ملامحه سكونٌ غريب، وفي عينيه عمقٌ لا يُشبه عيون البشر.

انتهت المحاضرة، وغادر الطلاب القاعة وهم يتحدثون بصخبٍ عن الامتحان القادم، بينما بقيت نورا تجمع كتبها ببطء.
وحين رفعت رأسها، وجدته واقفًا عند الباب، ينظر إليها بهدوء.
لم يقل شيئًا، فقط اكتفى بنظرةٍ ثابتة جعلت أنفاسها تتسارع دون سبب.

قال بعد لحظة صمت:

> "تبدين مرهقة… عليكِ أن تنامي أكثر."

 

تجمّدت الكلمات على شفتيها، إذ لم يكن بينهما حديث من قبل، ولم تخبر أحدًا عن سهرها الليالي في العمل.
سألته بصوتٍ خافت:

> "كيف… كيف عرفتَ ذلك؟"

 

ابتسم ابتسامة غامضة، لا دفء فيها ولا سخرية، وقال:

> "الأعين لا تخفي التعب، يا نورا."

 

ثم ابتعد بخطواتٍ هادئة، تاركًا وراءه ظلالًا من الحيرة، كأن وجوده نفسه سؤال بلا إجابة.


---

في المساء، كانت نورا عائدة من الجامعة.
الشارع شبه خالٍ، والمطر بدأ يهطل بخفة، يلمع تحت أضواء الأعمدة الصفراء.
كانت تسير مسرعة وهي تضم معطفها حول جسدها النحيل، حين شعرت بأن هناك من يتبعها.

توقفت فجأة، التفتت خلفها…
لا أحد.
لكنها أقسمت أنها سمعت همسًا ناعمًا ينادي اسمها:

> "نورا..."

 

ارتجفت، وابتلعت خوفها، ثم أسرعت بخطواتٍ متلاحقة حتى وصلت إلى السكن.
في تلك الليلة، لم تستطع النوم.
ظلت تستمع إلى صوت المطر، تتقلب في فراشها، وتشعر بأن هناك عينين تراقبانها من مكانٍ ما.


---

في اليوم التالي، حاولت أن تتجاهل الأمر.
جلست في الكافيتيريا مع زميلاتها، تضحك على مضض، لكن عقلها ظلّ مشغولًا.
وفجأة، لمحت نور يمرّ بالقرب منهن، فتوقفت الضحكات كلها دون سبب واضح.
كان حضوره كرياحٍ باردة تمرّ في المكان، لا تُرى ولكن تُشعر بها.

اقترب منها قليلًا، وقال بصوتٍ خافت:

> "احذري طريق العودة اليوم."

 

نظرت إليه في ذهول، لكنه لم ينتظر سؤالها، بل غادر بخطواتٍ بطيئة، تاركًا كلماتٍ أثقل من المطر الذي بدأ يهطل من جديد.


---

حلّ المساء، والسماء اشتدّ سوادها.
خرجت نورا من الجامعة وهي تحمل حقيبتها، تسرع بخطواتٍ متوترة نحو محطة الحافلات.
الطريق مظلم، والمطر ينهمر بشدة، وصوت الرعد يعلو في الأفق.
كانت على وشك عبور الشارع حين انطلقت سيارة مسرعة نحوها، أضواؤها البيضاء تخترق العتمة مباشرة في عينيها.
صرخت دون وعي، لكنها لم تشعر بالاصطدام.

في لحظة خاطفة، وجدت نفسها بين ذراعين قويتين، والهواء البارد يلفّها كدوامة.
حين فتحت عينيها، كان نور واقفًا أمام السيارة، يده ممدودة وقد أوقفها كما لو كانت كتلة هواء لا حديد.
الشرر يتطاير من مقدّمتها، والسائق يحدّق في ذهول، بينما جسده لم يتحرك قيد أنملة.

تراجعت نورا خطوة إلى الوراء، قلبها يخفق بعنف، همست:

> "ك… كيف فعلتَ ذلك؟"

 

لم يُجبها.
نظر إليها للحظة، بعينيه السوداوين اللتين لمعتا كوميضٍ تحت المطر، وقال بصوتٍ بارد:

> "لقد أخبرتكِ أن تحذري طريق العودة."

 

كانت أنفاس نورا تتلاحق، ووجهها شاحبًا كمن عبر للتو بين الحياة والموت.
السيارة التي اندفعت نحوها توقفت على بعد شعرةٍ منها، أو هكذا خُيّل للجميع…
لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا.

نور كان يقف أمامها، يده ما زالت ممدودة في الهواء، والإطارات المتوقفة ترتجف وكأنها تصارع قوة غير مرئية.
الزمن نفسه بدا وكأنه انكمش بين أصابعه.

نظرت إليه بدهشةٍ مرتجفة، لم تفهم ما حدث.
لم يكن في عينيه أي خوف… فقط ذلك السواد العميق الذي يبتلع كل شيء.
قالت بصوتٍ متقطع:

> "كـ… كيف فعلت ذلك؟!"

 

ابتسم ابتسامةً باهتة، وكأن السؤال لم يكن يستحق الجواب.

> "هناك أشياء يا نورا… لا يجب أن تُسأل عنها."

 

ثم أدار ظهره وغادر ببطء، تاركًا خلفه ضجيج السيارات وارتجاف القلوب.
كانت تشعر أن شيئًا غير طبيعي يختبئ خلف تلك الهدوءات، كأن الغموض يسير على قدمين… اسمه نور.


---

في تلك الليلة، لم تستطع نورا النوم.
كلما أغمضت عينيها، رأت تلك اللحظة مجددًا، يد نور الممتدة في الهواء، والسيارة التي توقفت كأنها اصطدمت بجدارٍ من العدم.
من هو؟
وكيف استطاع أن يفعل ما لا يفعله بشر؟

أخرجت هاتفها تبحث عن اسمه في سجلات الجامعة، فلم تجد شيئًا.
حتى صفحته الجامعية بدت فارغة، بلا تاريخ، بلا صورة، كأن وجوده نفسه… خطأ في الزمن.

image about وقعت في حب مصاص دماء 2

 

***

أَمَّا هُوَ، فَكَانَ يَقِفُ فِي شَرْفَةِ قَصْرٍ غَارِقٍ فِي الْعَتْمَةِ، يُطَّلُّ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّائِمَةِ كَمَنْ يُرَاقِبُ فَرِيسَةً مِنْ بَعِيدٍ. الرِّيحُ تُحَرِّكُ سِتَائِرَ الْحَرِيرِ، وَأَضْوَاءُ الْقَنَادِيلِ الْقَدِيمَةِ تَتَرَاقَصُ حَوْلَهُ.

فِي الدَّاخِلِ، كَانَ كُلُّ شَيْءٍ صَامِتًا... إِلَّا صَوْتَهُ. صَوْتٌ بَارِدٌ، هَادِئٌ، يَخْتَرِقُ جُدْرَانَ الْقَصْرِ كَأَنَّهَا تَهْمِسُ لَهُ وَحْدَهُ.

> "أَنْقَذْتَهَا؟"  
> "لِمَاذَا؟"

سَأَلَ نَفْسَهُ وَهُوَ يَضْحَكُ بِخَفْوَتٍ غَرِيبَةٍ.

> "رُبَّمَا لِأَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَرَى الْخَوْفَ عَنْ قُرْبٍ... أَوْ لِأَنَّ عَيْنَيْهَا تُشْبِهَانِ شَيْئًا نَسِيتُهُ مُنْذُ زَمَنٍ."

تَقَدَّمَ نَحْوَ الْمَرَايَا الْكَبِيرَةِ الَّتِي تَعْكِسُ ظِلَالَهُ لَا مَلَامِحَهُ، وَمَدَّ يَدَهُ كَمَنْ يَلْمِسُ سِرًّا دَفِينًا. ثُمَّ هَمَسَ، وَصَوْتُهُ يَقْطُرُ احْتِقَارًا:

> "الْبَشَرُ... مَخْلُوقَاتٌ هَشَّةٌ، يَخَافُونَ الْمَوْتَ لَكِنَّهُمْ يَعِيشُونَ كَالْأَمْوَاتِ. يَتَحَدَّثُونَ عَنِ النَّقَاءِ وَهُمْ غَارِقُونَ فِي الطِّينِ."

خَطَا خُطًى بَطِيئَةً نَحْوَ الْقَاعَةِ الْكُبْرَى، حَيْثُ وَقَفَتِ الْخَادِمَاتُ صَفًّا وَاحِدًا، رُءُوسُهُنَّ مُطَأْطِئَةٌ. نَظَرَاتُهُنَّ كَانَتْ مَلِيئَةً بِالْخَوْفِ، فَهُوَ لَا يَعُودُ إِلَى الْقَصْرِ إِلَّا وَمَعَهُ... رَائِحَةُ الْمَوْتِ.

> "مَنْ مِنْكُنَّ تُحِبِّينَنِي بِحَقٍّ؟"

صَمْتٌ ثَقِيلٌ. ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ بِنَبْرَةٍ مَهَاوِسَةٍ:

> "وَمَنْ مِنْكُنَّ... عَلَى اسْتِعْدَادٍ أَنْ تَمُوتِي لَأَجْلِي؟"

قَالَتْ الْأُولَى بِرْعْشَةٍ: "سَيِّدِي، أَنْتَ حَيَاتِنَا... لَكِنْ رَحْمَةً!" فَانْدَفَعَ نَحْوَهَا بِسُرْعَةٍ خَارِقَةٍ كَالْبَرْقِ، مَسْكًا إِيَّاهَا، وَهَمَسَ: "الْحُبُّ يَمْتَلِئُ بِالدَّمِ!" غَرَسَ أَسْنَانَهُ فِي رَقْبَتِهَا، يَمْصُصُ دَمَهَا الْدَافِئَ بِشَهْوَةٍ، جِسْمُهَا يَسْقُطُ فَوْرًا وَهُوَ يَشْعُرُ بِقُوَّتِهِ تَزْدَادُ، عَيْنَاهُ تَحْمَرَّانِ أَكْثَرَ.

الثَّانِيَةُ صَرَخَتْ: "لَا، أَرْجُوكَ!" لَكِنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي غَمْضَةِ عَيْنٍ، عَاضًّا شِرْيَانَهَا وَقَالَ: "كُلُّ قَطْرَةٍ تَجْعَلُنِي أَقْوَى!" يَشْرَبُ حَتَّى ذَابَلَتْ، قُوَّتُهُ تَتَدَفَّقُ كَالْنَّهْرِ، حَرَكَتُهُ أَسْرَعُ مِنْ قَبْلُ.

الثَّالِثَةُ تَتَوَسَّلُ: "سَيِّدِي، أَنَا لَكَ!" فَرَدَّ بِضَحْكَةٍ: "الْوَفَاءُ يَنْتَهِي هُنَا"، ثُمَّ انْقَضَّ بِسُرْعَةٍ لا تُبَصَّرُ، يَمْصُصُ مِنْ قَلْبِهَا النَّابِضِ، يَشْعُرُ بِالْقُوَّةِ الْجَدِيدَةِ تَمْلَأُهُ حَتَّى مَاتَتْ فِي سَكُونٍ.

امْتَلَأَتِ الْقَاعَةُ بِرَائِحَةِ الدَّمِ، وَالْشُّمُوعُ انْطَفَأَتْ. وَقَفَ وَسْطَ السَّكُونِ، أَقْوَى وَأَسْرَعُ مِنْ أَيَّةٍ وَقْتٍ، وَقَالَ بِهُدُوءٍ مَرِيضٍ:

> "الْآنَ فَقَطْ... عَادَ الصَّمْتُ جَمِيلًا كَمَا أُحِبُّهُ."

ثُمَّ أَدَارَ وَجْهَهُ نَحْوَ النَّافِذَةِ، هَمَسَ:

> "نُورَا..."

ابْتَسَمَ نِصْفَ ابْتِسَامَةٍ، وَقَالَ لِنَفْسِهِ:

> "رُبَّمَا... لَمْ تُخْلَقِ النَّجَاةُ إِلَّا لِتَقُودَهَا إِلَيَّ."

***

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
Adham HEGAZY Hegazy تقييم 0 من 5.
المقالات

2

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.