في حضرة القمر:همسات مخفية بين الغيوم، وعودٌ لا تموت في صمت الليالي

في حضرة القمر:همسات مخفية بين الغيوم، وعودٌ لا تموت في صمت الليالي

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

 

image about في حضرة القمر:همسات مخفية بين الغيوم، وعودٌ لا تموت في صمت الليالي

همسات القمر بين الغيوم

في زاوية هادئة من هذا العالم، حيث تلتقي السماء بالأرض في همس المساء، كانت سلمى تجلس وحدها، تحدّق في السماء الملبّدة بالغيوم. كانت الغيوم ثقيلة، تحجب القمر، لكنها لم تمنع نوره من التسلل إليها كأنّه يهمس لها برسائل خفية لا يسمعها سواها. منذ سنوات، اعتادت سلمى أن تكلّم القمر كل ليلة، تخبره عن أحلامها، عن ألمها، وعن أسئلتها التي لا تجد لها إجابة بين الناس.

القمر، في نظرها، لم يكن مجرد جرم سماوي يضيء السماء، بل كان الصديق الذي لا يخذل، والمرآة التي تعكس صراعاتها الداخلية في صمت. في تلك الليلة بالذات، كانت تمر بمرحلة صعبة. فشل، إحباط، ووحدة تلفها من كل جانب. أحست أن الغيوم التي تخفي القمر، تشبه تلك التي تلبد قلبها... ولكنها شعرت أيضاً أن ما وراءها لا يزال هناك، كما القمر... لم يختفِ، بل فقط ينتظر اللحظة المناسبة للظهور.

استعادت سلمى في تلك اللحظة ذكريات طفولتها، حين كانت تركض في الحقول، وتضحك بحرية، قبل أن تثقلها الحياة بتوقعات الكبار ومطالب الواقع. تذكرت صوت والدتها التي كانت تقول: "القمر لا يختفي، فقط نحتاج أحياناً أن نصبر حتى يعود." فكّرت في هذه الجملة طويلاً، كأنها المفتاح الذي انتظرته طويلاً.
في اليوم التالي، قرّرت سلمى أن تغيّر شيئاً، ولو صغيراً. بدأت بكتابة يومياتها، كأنها تخاطب القمر: "عزيزي القمر، اليوم حزنتُ لأنني شعرت بالخذلان، لكنني تذكرت وعدك لي بأن الغيوم لا تبقى للأبد". وهكذا، بدأت رحلة شفاءها البطيئة. كل ليلة تكتب، وكل صباح تنهض بنية جديدة. رويدًا رويدًا، بدأت الغيوم تتبدد في قلبها، قبل أن تتبدد في السماء.

مرت الشهور، وكبرت سلمى، وتغيرت، لكنها لم تنسَ همسات القمر. صارت تهمس بدورها لأشخاص آخرين: "لا تستسلم، القمر خلف الغيوم ينتظرك"، كما لو أن مهمتها في الحياة أصبحت أن ترد الجميل لذلك النور الهادئ الذي رافقها عندما كان الجميع نياماً.

"همسات القمر بين الغيوم" لم تكن مجرد قصة عن فتاة وحيدة، بل درس عن الأمل، عن النور الذي لا ينطفئ حتى إن غطته غيوم كثيفة، وعن الصبر الذي يُنبت الزهور في أكثر القلوب قسوة.

وفي لحظة من السكون، أدركت أن القمر لا يختبئ، بل يمنحنا الفرصة لنتعلم الانتظار. الغيوم ليست سوى اختبارات مؤقتة تمر، أما الضوء، فهو دائم لمن يملك الإيمان.  

تأملت في الهدوء، واكتشفت أن في الصمت حكمة، وفي الظلمة معنى، وأنّ لكل ظلام نهاية مهما طال. كانت همسات القمر تردد في قلبي أن لا شيء يضيع، وأننا مهما تهنا، ستقودنا أرواحنا نحو النور مجددًا.  

وهكذا، علمتني تلك الليلة أن الأمل لا يُطفأ، وأن خلف كل غيم كثيف، هناك قمر لا يتوقف عن الهمس لمن يصغي بقلبه.

في الليلة التي استقر فيها القمر خلف غيوم تشرين الرمادية، جلست ليلى على شرفة بيتها القديم، تحمل بين يديها دفتراً قديماً وأحلاماً نسيت أن تعتني بها. كانت النسائم الباردة تعبر وجهها بخفة، تحمل معها عبق الذكريات، وأصواتاً بعيدة تشبه الهمس… همسات لم تكن تعرف من أين تأتي، لكنها كانت تشعر بها في قلبها.

كانت تلك الهمسات تنبع من القمر، أو هكذا خُيّل لها. بدا كأنه يحدثها، يواسيها، يذكرها بأيام الطفولة حين كانت تكتب الأمنيات على ورق النجوم وتبعثرها في الهواء. حينها، لم تكن الغيوم تخفي وجه القمر، ولم يكن القلب يعرف طعم الخيبة.

ليلى، التي غادرت مدينتها بحثاً عن ذاتها، عادت بعد أعوام بيدين فارغتين، وقلب مثقل بالحكايات التي لم تُكتَب. في وحدتها، وجدت القمر رفيقاً. لا يحكم، لا يُعاتب، فقط يُصغي. ومع كل ليلة، كانت تكتشف أن الهمسات ليست سوى صوتها الداخلي، الذي أضاعته في زحام الحياة.

كانت تكتب كل ليلة. عن الغيم، عن الضوء، عن الألم، عن الحب الذي عبر قلبها كنسمة ثم اختفى. وكانت كلماتها، شيئاً فشيئاً، ترمم شروخ الروح. كانت تعرف أن القمر لن يمنحها إجابات، لكنه يشاركها الصمت، وذلك وحده كان كافياً.

وفي ليلةٍ قررت أن تكتب رسالتها الأخيرة… لا لأحد، بل لنفسها.

«يا ليلى، لا تنتظري أن تنقشع الغيوم لتري الضوء. تعلمي أن تبحثي عنه في داخلك. فالقمر موجود، حتى إن لم تريه. وداخلك، هناك نجمة لا تنطفئ، فقط امنحيها فرصة أن تتكلم.»

طوت الرسالة، أغلقت الدفتر، وابتسمت. ثم نهضت من الشرفة، لا تزال الغيوم في السماء، لكن في قلبها، كان الضوء قد بدأ يعود.

بعد أن أغلقت ليلى دفترها، انطلقت في صباح اليوم التالي إلى مقهى صغير في زقاق قديم كانت تحبّه أيام المراهقة. هناك، التقت صدفة بعمر، زميلها القديم من الثانوية. لم يكن الزمن رحيماً به، تجاعيد خفيفة تحيط بعينيه، ولكن ابتسامته بقيت كما هي: صادقة، دافئة.

جلسا يتحدثان، في البداية بخجل الذكريات، ثم بشغف اللحظة. حكى لها عن مغامراته في التصوير والسفر، وعن فقده لأخيه في حادث، وكيف بدأ يكتب الشعر ليعبر عن ألمه. وجد كل منهما في الآخر انعكاساً لما ضاع، وما تبقى.

دخلت حياتهما أيضاً نورا، فتاة في العشرينات، تعرفت عليها ليلى خلال جلسة للقراءة في مكتبة الحي. كانت نورا تكتب خواطر قصيرة تنشرها على مدونة مهملة، وكانت تتيه بين أحلامها والواقع الصعب. رأى الثلاثة في بعضهم فرصة للشفاء الجماعي، فقرروا إنشاء نادي أدبي صغير في المقهى ذاته، يجتمعون كل أسبوع، يقرؤون، يكتبون، ويبحثون عن الضوء تحت الغيوم.

مع الوقت، بدأت ليلى تُنشر مقالاتها في جريدة محلية، كتب عمر ديوانه الأول بعنوان "على حافة الضوء"، وبدأت نورا تحلم بكتابها الأول.

لكن الغيوم لم تختفِ تماماً. ذات مساء، اختفى عمر دون إنذار. رسالة قصيرة فقط: "أنا بحاجة للبحث عن إجابة في داخلي، كما فعلتِ أنتِ، يا ليلى."  
اختفى، لكنهم ظلوا يكتبون له، في دفاترهم، كأنّه سيعود يوماً ليقرأ.

عودة الضوء خلف الغيوم 

مرت أسابيع ثقيلة منذ رحيل عمر. في البداية، كان الصمت يملأ الزوايا في لقاءات المقهى. ليلى كانت تكتب، لكنها لا تقرأ، ونورا كانت تحدق في فنجان قهوتها طويلاً قبل أن تهمس بشيءٍ صغير ثم تصمت.

وفي أحد تلك الأمسيات الرمادية، جاءهم ظرف بني صغير على طاولة ناديهم الأدبي. لم يكن عليه اسم، فقط جملة مكتوبة بخط يعرفونه جيداً:  
"من خلف الغيوم... أعود بالنور".

فتحت ليلى الظرف بأصابع مرتجفة، ووجدت داخله قصيدة بخط يد عمر، بعنوان: "ضوءك هو دليلي".  
كان نصّاً مؤثراً، مزيجاً من الألم والحنين، وكأنه كان يخوض معركته الأخيرة مع ذاته… وانتصر.

بعد أيام، تلقّت ليلى رسالة قصيرة:  
"أنا في مدينة البحر، حيث يشرق القمر كل مساء على صفحة الماء. تعالوا إن أردتم اللقاء."

دون تردد، سافرت ليلى ونورا. قطار طويل، وحقائب مليئة بالكلمات المؤجلة.

وصلوا إلى المدينة الساحلية في المساء، وكانت السماء صافية والقمر بدراً. وجدوه على الشاطئ، جالساً على صخرة، يحمل دفتراً جديداً.  
عانقهم بصمت طويل، وابتسم.  
قال: "أنا مستعد لأكتب، لا عن الظل فقط، بل عن النور الذي نبت من تحته."

وفي تلك الليلة، كتبوا معاً أول فصل من كتاب جديد، يحمل عنوان: "همسات القمر… لم تعد بين الغيوم".

حين أشرقت الهمسات 

مرّت الشهور، وتحوّلت صفحات اللقاءات إلى كتاب. أطلقوا عليه الاسم الذي حملهم في الليالي العاصفة: "همسات القمر بين الغيوم".

كان كل فصل يحمل توقيعًا مختلفًا: ليلى بصدقها العاطفي، نورا برؤيتها العميقة، وعمر بروحه المجروحة التي تعلمت أن تضيء الطريق. أصبح الكتاب مرآةً لقلوبهم، وشهادة على أن الظلمة لا تدوم، إن وُجد من يكتب عنها بنور.

في الأمسية الأدبية الكبرى، جلس الثلاثة أمام جمهور لم يتوقعوه. امتلأت القاعة بعيون تترقّب، وقلوب تنتظر أن تُحكى لها قصة تشبهها.

قرأت ليلى فقرة الختام بصوتها الدافئ:

"نحن لا نكتب لنُهرب من الألم، بل لنفهمه... القمر لا يختبئ بين الغيوم إلى الأبد، إنه فقط ينتظر اللحظة المناسبة ليهمس للنور أن يعود."

وبين تصفيق الجمهور، نظر الأصدقاء الثلاثة إلى بعضهم البعض، وابتسموا. لم تعد الهمسات مختبئة… بل أصبحت نغمة حياة.

وفي السماء، كان القمر يُطلّ، بلا غيوم.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
achraf hassouta تقييم 0 من 5.
المقالات

2

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.