صوت الهمس في المكتبة المنسية
صوت الهمس في المكتبة المنسية
(الكلمات: 635 كلمة تقريباً)
كانت "مكتبة أرخيس" مجرد هيكل مهجور يقع عند طرف الحي القديم، يلفه الصمت البارد ورائحة العفن. كان الجميع يعرف قصتها؛ أغلقت أبوابها بعد اختفاء أمين المكتبة، السيد إلياس، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ووجدت الشرطة مكتبه سليماً إلا من كتاب واحد مفتوح على صفحة بيضاء تماماً.
لكن بالنسبة لي، خالد، كنت أرى فيها كنزاً لا يُقدَر بثمن. كنت طالب دراسات عليا مهووساً بالمخطوطات القديمة، وأعتقد أن إلياس خبأ بعضها قبل اختفائه. وفي ليلة خريف مظلمة، كسرت القفل المتآكل ودخلت.
الدخول إلى قلب الصمت
بمجرد أن أغلقت الباب خلفي، ابتلعني الظلام الحالك. شعاع مصباح يدي الصغير كشف عن صفوف لا نهائية من الأرفف الخشبية العتيقة المليئة بالكتب التي غطاها تراب عقود من النسيان. كان الهواء ثقيلاً، وكأنه يرفض أن تتحرك الأنفاس بداخله.
شرعت في البحث، متجاهلاً قشعريرة البرد التي تسللت إلى عمودي الفقري. فجأة، سمعت شيئاً. كان صوتاً خافتاً، وكأنه همس قادم من الممرات البعيدة، يشبه صوت أوراق جافة تُقلَّب.
تجمدت في مكاني. كان يجب أن تكون المكتبة فارغة تماماً.
"من هناك؟" همست بصوت أضعف مما توقعت.
توقف الهمس للحظة، ثم بدأ مجدداً، لكن هذه المرة كان أقرب، وكأنه يخرج من خلف الرفوف المجاورة لي مباشرة. لم يكن صوتاً لقارئ أو حتى لحيوان؛ بل كان أشبه بتمتمة سريعة بلغة غير مفهومة، وكأن أحداً يقرأ تعويذة خلف الستار.
المخطوطة القاتلة
تقدمت بخطوات بطيئة نحو مصدر الصوت. كان الرف الثالث على اليسار. عندما أضأت المكان، لم أجد شيئاً سوى صفوف من الكتب المربوطة بخيوط داكنة. لكن في منتصف الرف، كان هناك كتاب واحد مائل، جلده ليس جلد كتب المكتبة المعتاد، بل كان أشبه بجلد شاحب ومطاطي.
مددت يدي لألتقطه. في اللحظة التي لمست فيها الغلاف، توقف الهمس فجأة، وحل محله صوت صرخة صامتة سمعتها في أذني فقط، وكأنها تأتي من أعماق عقلي. سحبت يدي بسرعة.
تراجعت خطوة، وعيني مثبتة على الكتاب. لاحظت أن الغلاف المتحرك لم يكن جلداً عادياً؛ بل كانت بشرة بشريّة تم خياطتها بعناية.
استجمعت شجاعتي وأمسكت بالكتاب مرة أخرى، وفتحته بسرعة. كانت الصفحات بيضاء كلياً، تماماً مثلما وُصِف كتاب إلياس المفقود.
ولكن هذه المرة، بينما كنت أحمل الكتاب، بدأت الحروف تظهر ببطء على الصفحة الأولى، ليست محفورة بالحبر، بل بالدم الطازج الذي بدأ يتسرب من المسام الميكروسكوبية للورق الأبيض.
حبر الظلال
بدأت الكلمات تتشكل بسرعة جنونية أمام عيني. كانت رسالة موجزة، مكتوبة بخط يد إلياس نفسه:
"القراءة ليست بالعينين، بل بالروح. من يفتح هذا، يصبح هو الكتاب التالي. هذا ليس حبراً، يا خالد. هذا أنا."
عندما انتهت الجملة، شعرت بثقل هائل على صدري وكأن وزناً لا مرئياً يضغط على رئتيّ. بدأ الهمس يعود، لكن هذه المرة لم يكن في الممرات. كان داخل رأسي. كان الهمس عبارة عن صوت إلياس القديم، يضحك بهدوء متزايد، ويقول: "أهلاً بك في الصفحة البيضاء الخاصة بك."
أسقطت الكتاب محاولاً الهرب، لكن قدمي تعثرت في الظلام، وسقط مصباح يدي ليتحطم على الأرض. عم الظلام التام المكان.
في تلك اللحظة، لم أعد أسمع الهمس، بل شعرت به. كان يزحف من الكتاب على الأرض، يغطي الأرضية ويلفني بهدوء. حاولت أن أصرخ، لكن صوتي تحول إلى همسة خافتة تختلط بالصوت القادم من الكتاب المفتوح.
آخر شيء تذكرته هو رائحة حادة لشيء معدني ودافئ، وهو يبدأ في سحب الوعي مني، بينما كانت أوراق المكتبة القديمة تتنهد بصوت خافت استعداداً لاستقبال حكاية جديدة.
ومنذ تلك الليلة، أصبحت "مكتبة أرخيس" لا تحتوي على كتاب واحد بصفحة بيضاء مفتوحة بل كتابين.