قريني لا ينام

قريني لا ينام
لم أكن أخشى الظلام،
بل كنت أخشى تلك اللحظة التي أُغمِض فيها عيني.
ففي كل مرة أستسلم للنوم،
كنت أشعر بأن أحدًا يبقى مستيقظًا بدلًا مني،
كأن الوعي لا يختفي، بل ينتقل.
كانت أنفاسه قريبة، أقرب مما ينبغي،
لا تُرى ولا تُسمَع،
لكن حضورها كان أثقل من الصمت.
تساءلت طويلًا:
هل للقرين جسدٌ يظهر؟
أم أنه ظلٌّ يراقب في الخفاء؟
غير أن يقيني الوحيد كان ثابتًا لا يتغيّر:
أن قريني لا ينام،
وأن نومي…
هو يقظته.
لم يكن الأمر مجرد شعورٍ عابر.
كنت أستيقظ كل صباحٍ وأنا مرهقة،
كأنني لم أنم،
وكأن ساعات الليل مرّت عليّ مرتين…
مرة لي، ومرة له.
في البداية ظننت أن الأرق هو السبب،
لكنني كنت أنام،
أنام بعمقٍ يشبه الغياب،
ومع ذلك أستيقظ وقلبي مثقل،
وعقلي ممتلئ بأفكارٍ لم أفكّر بها يومًا.
كنت أجد أشياء في غرفتي ليست في مكانها،
الكرسي أقرب من المعتاد،
النافذة مواربة،
والمرآة…
كانت تواجه سريري مباشرة،
رغم أنني أتأكد كل ليلة من إبعادها.
في إحدى الليالي،
وقبل أن أغفو بلحظات،
شعرت بذلك الإحساس من جديد.
ثِقَلٌ عند صدري،
وكأن أحدهم يجلس داخلي لا فوقي.
لم أفتح عيني.
كنت أعرف…
أن فتحهما يعني الاعتراف بوجوده.
لكن صوتًا هادئًا،
هادئًا إلى حد الرعب،
همس في أعماقي:
«نمّي…
دوري الآن».
وفي تلك اللحظة فهمت الحقيقة التي حاولت تجاهلها طويلًا:
أنا لا أشاركه النوم،
بل نتناوب عليه.
حين أنام أنا،
يستيقظ هو.
وحين أستيقظ…
أشعر بتعبٍ
كأنني كنت أحلم بأحلامٍ
لم تكن لي.
في الليلة التالية، حاولت أن أقاوم النوم.
أغلقت الأنوار، وجلست على السرير أحدّق في الجدار المقابل،
أعدّ الدقائق،
وأراقب جسدي وهو ينهك ببطء.
كنت أظن أن البقاء مستيقظة سيمنعه من الظهور.
لكنني كنت مخطئة.
كلما طال يقظتي،
ازداد حضوره وضوحًا.
لم أره،
لكنني شعرت به كما يُشعَر بالخوف قبل أن نفهم سببه.
إحساسٌ غريب بأن أفكاري لم تعد ملكي وحدي،
وأن بعض الجُمل التي تمر في رأسي
لم أكن أنا من بدأها.
عندما نظرت إلى المرآة تلك الليلة،
لم أرَ شيئًا مختلفًا.
وجهي كما هو،
عيناي في مكانهما،
لكن نظرتي…
كانت أهدأ من اللازم.
كأن من ينظر إليّ
شخصٌ يعرفني أكثر مما أعرف نفسي.
ابتعدت عن المرآة بسرعة،
وتمتمت في داخلي أن الأمر مجرد إرهاق،
لكن الصوت عاد،
لا من الخارج،
بل من العمق:
«أنتِ تتعبين كثيرًا…
اتركي لي الباقي».
في الأيام التالية،
بدأت ألاحظ أشياء أدق.
كنت أكتب جملة في دفتري
ثم أعود إليها بعد ساعات
فأجد نهايتها مختلفة،
أكثر جرأة،
أكثر قسوة،
وكأن شخصًا آخر أكملها نيابة عني.
أحيانًا أبتسم دون سبب،
وأحيانًا أتوقف فجأة عن الكلام
لأن فكرة ما لم تكتمل…
كأنها سُحبت من رأسي.
وفي إحدى الليالي،
حدث ما لم أكن مستعدة له.
استيقظت فجأة،
لا بسبب كابوس،
بل بسبب شعورٍ حاد
بأن الغرفة ليست فارغة.
كان الظلام كثيفًا،
لكنني كنت متأكدة
أنني لست وحدي.
اقتربت من المرآة ببطء،
وقلبي يخفق بعنف،
وعندما نظرت…
لم يتحرك انعكاسي فورًا.
تأخر جزءًا من الثانية.
جزء صغير،
لكن كافيًا
ليجعل الدم يتجمد في عروقي.
تحرك بعدها،
مطابقًا لي تمامًا،
لكنني كنت قد فهمت.
القرين لا يظهر فجأة،
ولا يقتحم حياتك،
بل يتسلل.
ينتظر اللحظة التي تتعب فيها من نفسك،
اللحظة التي تتمنى فيها أن يتولى أحدهم عنك التفكير،
الاختيار،
التحمّل.
همست، وصوتي بالكاد خرج:
«ماذا تريد؟»
لم يجبني بصوتٍ مسموع،
لكن الإجابة وصلتني واضحة،
واضحة أكثر مما تمنيت:
«ما كنتِ تهربين منه…
سأعيشه بدلًا منك».
في تلك الليلة،
لم أنم.
ولم أستيقظ أيضًا.
كنت بين الحالتين،
أشعر بأنني أُدفَع خطوة للخلف،
وأن مساحة صغيرة في داخلي
تُفرَغ ببطء.
ومنذ ذلك الحين،
لم أعد أخاف من النوم.
بل أخاف من الاستيقاظ،
لأنني في كل صباح
أحتاج لحظة إضافية
لأتأكد…
أن التي فتحت عيني
ما زالت أنا.
مرت الأيام،
وأنا أعيش في حالة ترقّب دائم،
كأنني أراقب نفسي من الداخل،
وأخشى أن أفقدني في لحظة غفلة.
لم يعد النوم عدوّي،
بل صار اتفاقًا صامتًا.
حين أشعر بالتعب،
أعرف أنه يقترب،
وحين أقاوم،
أشعر به يضيق ذرعًا.
بدأت ألاحظ تغيّرًا في ردود أفعالي.
أشياء كانت تُخيفني لم تعد تفعل،
وأمور بسيطة باتت تُربكني بلا سبب.
كأن ميزان المشاعر في داخلي
لم يعد مضبوطًا.
في إحدى المرات،
نادَتني صديقتي باسمي،
فالتفتُ إليها متأخرة،
ليس لأنني لم أسمع،
بل لأن الاسم احتاج لحظة
ليعبر داخلي.
اسمي…
لم يعد يخصّني وحدي.
في تلك الليلة،
جلست أمام المرآة طويلًا.
لم أكن أبحث عن انعكاسي،
بل عن دليل
أنني ما زلت المتحكّمة.
قلت بصوتٍ مسموع لأول مرة:
«أعرف أنك هنا».
لم يحدث شيء.
لا حركة،
لا همس.
كدت أتنفس الصعداء،
لكن انعكاسي ابتسم.
لم تكن ابتسامتي.
كانت أهدأ،
أثبت،
كأنها لشخص
انتظر هذا الاعتراف طويلًا.
قال بصوتي تمامًا:
«تأخرتِ».
سألته وأنا أشعر بأن الكلمات تُسحَب من أعماقي:
«ماذا تريد؟»
أجاب ببساطة مخيفة:
«التوازن».
أدركت حينها أنني لم أكن ضحية اقتحام،
بل طرفًا في شراكة غير معلنة.
كل مرة هربت فيها من مواجهة فكرة،
أو قرار،
أو خوف…
كنت أترك له مساحة.
قال:
«أنا الجزء الذي لا ينام،
لأنكِ كنتِ تحتاجين من يسهر
حين تتعبين».
شعرت بارتجافٍ داخلي،
ليس خوفًا،
بل إدراكًا.
سألته:
«وماذا سيحدث لي؟»
نظر إليّ،
نظرة لا تحمل عداءً
ولا رحمة،
وقال:
«هذا يعتمد عليكِ».
في تلك اللحظة،
سمعت صوت الأذان من بعيد،
صوتًا واقعيًا
أعادني إلى العالم.
ارتجّ الانعكاس قليلًا،
كأن وجوده تأثر.
استدرت بسرعة،
وحين عدت للمرآة…
كان وجهي وحده.
لكنني لم أشعر بالانتصار.
لأنني عرفت الحقيقة كاملة:
القرين لا يُهزم،
ولا يُطرد.
هو لا ينام
لأنه يعيش في المساحة
التي نتركها فارغة داخلنا.
ومنذ تلك الليلة،
تعلمت أن أواجه أفكاري
قبل أن أهرب منها،
وأن أتحمّل نفسي
حتى لا أضطر لتقاسمها.
لكن…
في بعض الليالي،
حين يشتدّ التعب،
وحين يطول الصمت،
أشعر بتلك الطمأنينة الغريبة،
وأسمع الهمسة القديمة:
«إن أردتِ الراحة…
أنا هنا».
ولا أكون واثقة دائمًا،
إن كان تجاهلها
قوة…
أم مقاومة مؤجلة.
لم تختفِ الهمسة بعد تلك الليلة،
لكنها صارت أذكى.
لم تعد تُفاجئني،
ولا تُرعبني كما في البداية،
بل صارت تأتي في اللحظات التي أضعف فيها دون أن أعترف.
حين أتردد،
حين أتعب من التفكير،
حين أقول في سري:
«ليت أحدًا يقرر بدلًا مني».
في تلك اللحظة تحديدًا،
كان حضوره يثقل الهواء من حولي،
لا كعدوّ،
بل كبديل جاهز.
بدأت ألاحظ أنني حين أقاومه،
أصبح أكثر صمتًا،
وحين أستسلم ولو لفكرة واحدة،
يقترب خطوة.
كأن بيننا ميزانًا خفيًا،
كل تنازلٍ مني
يمنحه وزنًا أكبر.
في إحدى الليالي،
رأيت حلمًا لم يكن كالأحلام.
كنت أسير في ممر طويل،
جدرانه مغطاة بمرايا لا تعكسني كاملة،
كل مرآة تُظهر جزءًا مختلفًا مني:
واحدة تُظهر خوفي،
وأخرى تُظهر غضبي،
وثالثة تُظهر هدوءًا لم أعرفه يومًا.
وفي نهاية الممر
كان يقف هو.
لم يكن نسخةً مشوّهة،
ولا ظلًا مخيفًا،
بل كان يشبهني…
حين أكون متماسكة أكثر مما أحتمل.
قال بهدوء:
«أنا لستُ هنا لأخذكِ،
بل لأحملكِ حين تتركين نفسكِ».
سألته في الحلم:
«ومتى أختفي أنا؟»
ابتسم ابتسامة خفيفة،
وقال:
«حين تتوقّفين عن الرغبة في البقاء».
استيقظت فَزِعة،
لا من الخوف،
بل من المعنى.
أدركت أن الخطر لم يكن فيه،
بل في تعبي أنا،
في تلك اللحظات الصغيرة
التي أظنها غير مؤثرة،
وأترك فيها نفسي جانبًا.
في اليوم التالي،
وقفت أمام المرآة من جديد،
لكنني هذه المرة لم أبحث عن انعكاسٍ متأخر،
بل نظرت في عينيّ مباشرة
وقلت بصوتٍ ثابت:
«لن أهرب».
لم يحدث شيء.
لا ابتسامة غريبة،
لا همس.
لكنني شعرت بشيءٍ يتراجع داخلي،
ليس اختفاءً،
بل قبولًا بالأمر الواقع.
فهمت حينها الحقيقة الأخيرة:
القرين لا ينام،
لأنه خُلِق من يقظتنا الدائمة لأنفسنا،
من الأسئلة التي نؤجلها،
ومن الأحمال التي نرفض حملها وحدنا.
هو ليس شرًّا خالصًا،
ولا خيرًا منقذًا،
بل احتمال.
احتمال أن نترك أنفسنا،
أو أن نتمسّك بها.
ومنذ ذلك اليوم،
ما زلت أنام،
وأستيقظ،
وأعيش.
لكنني كلما شعرت بالتعب الشديد،
أتنفس بعمق،
وأذكّر نفسي:
إن نمتُ لأهرب،
سيستيقظ هو.
وإن نمتُ لأرتاح،
سأعود أنا.
مرّت فترة ظننتُ فيها أنني انتصرت.
الأيام عادت منتظمة،
النوم صار أخف،
والمرآة… مجرد مرآة.
كنت أعيش،
وأقنع نفسي أن المواجهة كانت كافية.
لكن بعض الانتصارات
لا تُقاس بما يختفي،
بل بما يتعلّم الصبر.
في إحدى الليالي،
كنت متعبة على نحوٍ مختلف.
ليس تعب الجسد،
بل ذلك الإرهاق الصامت
الذي يجعل أبسط الأشياء ثقيلة.
جلست على السرير،
وأغمضت عينيّ،
لا هروبًا،
بل استسلامًا مؤقتًا.
وقبل أن أغفو تمامًا،
سمعته للمرة الأولى
من غير همس:
«أنا لم أرحل».
فتحت عينيّ فورًا.
الغرفة كما هي،
الهدوء في مكانه،
ولا شيء يتحرك.
قال بهدوءٍ خالٍ من التهديد:
«أنتِ لم تطرديني…
أنتِ فقط تعلّمتِ كيف تُبقينني بعيدًا».
سألته، دون خوف هذه المرة:
«ولماذا تعود الآن؟»
أجاب:
«لأنكِ متعبة…
ولأن التعب دعوة».
فهمت أخيرًا.
القرين لا ينتظر الظلام،
ولا النوم،
ولا المرايا.
هو ينتظر تلك اللحظة
التي نتمنى فيها
أن نكون أقل وعيًا،
أقل حضورًا،
أقل مسؤولية عن أنفسنا.
قلت له:
«لن أترك مكاني».
ساد الصمت طويلًا،
ثم جاء صوته أهدأ من أي وقت مضى:
«إذن ابقي مستيقظة داخلكِ».
ومنذ تلك الليلة،
لم أعد أبحث عنه،
ولم أعد أهرب منه.
أصبحت أعرف الإشارة:
حين أثقل،
حين أؤجّل،
حين أتمنى لو أن أحدًا
يحمل عني نفسي.
عندها أتوقف،
أتنفس،
وأعود خطوة للداخل.
لأنني أدركت الحقيقة التي لم أفهمها من قبل:
القرين لا ينام،
لكنه لا يستطيع العيش
إلا إن نمنا نحن عن أنفسنا.
وإن كنتِ تسألين الآن
من التي تكتب هذه الكلمات،
أأنا…
أم هو؟
فالجواب الوحيد الصادق هو:
أنا التي ما زالت تختار
أن تبقى.
حتى الآن.
بعد تلك الليلة،
بدأت ألاحظ أمرًا لم أنتبه له من قبل.
لم يكن وجوده مرتبطًا بالخوف،
ولا بالضعف فقط،
بل بالاختيار.
كل مرة أواجه موقفًا صعبًا،
وأقرر بنفسي،
أشعر بثقلٍ في صدري…
ثم يخفّ.
وكل مرة أؤجّل،
أو أقول: ليس الآن،
يعود ذلك الإحساس القديم،
كأن شيئًا يتحرّك في الظل.
في أحد الأيام،
كنت أقف أمام قرار بسيط،
لكنني تهرّبت منه بلا سبب.
جلست،
وضعت رأسي بين كفّي،
وتمتمت:
«سأفكر لاحقًا».
حينها فقط،
شعرت به يجلس بهدوء داخلي،
لا يضغط،
لا يهمس،
بل ينتظر.
قال:
«هكذا تمامًا».
لم يكن صوته مخيفًا.
كان مطمئنًا…
وذلك ما أرعبني.
سألته:
«هل ستأخذ مكاني يومًا؟»
أجاب بعد صمتٍ قصير:
«أنا لا آخذ شيئًا.
أنا أملأ ما يُترَك».
وقفت أمام المرآة مرة أخرى،
لكن هذه المرة
لم أبحث عن انعكاسٍ متأخر،
ولا ابتسامة غريبة.
رأيت نفسي فقط.
متعبة،
واعية،
وحاضرة.
فهمت أخيرًا أن المعركة
لم تكن بيني وبينه،
بل بيني
وبين رغبتي في الاختفاء المؤقت.
منذ ذلك اليوم،
لم أعد أقول:
ليت أحدًا يفعل بدلًا مني.
أقول:
سأفعل، ولو بتعب.
ولا يعني هذا أنه اختفى.
هو ما زال هنا،
صامتًا،
يقظًا.
فالقرين لا ينام،
لأنه خُلِق من الأجزاء
التي لا نحب مواجهتها.
لكنه أيضًا لا يحكم،
ولا يسيطر،
إلا إذا تخلّينا نحن عن القيادة.
والآن…
وأنا أكتب هذه الكلمات،
أسأل نفسي سؤالًا واحدًا فقط:
هل أكتب لأنني اخترت الكتابة؟
أم لأنني لم أجد سببًا لأتوقّف؟
أغلق الدفتر.
أنظر حولي.
أتنفّس.
ثم أبتسم ابتسامة خفيفة،
وأهمس،
لا له…
بل لنفسي:
«ما زلتُ مستيقظة».
لكن في أعماقي،
شيءٌ ما
يبتسم أيضًا
مرّت شهور بعد ذلك،
وأنا أعيش بحذرٍ جديد،
ليس خوفًا،
بل وعيًا.
تعلّمت أن أراقب نفسي
كما يراقب المرء نارًا صغيرة في غرفة مغلقة؛
ليست خطِرة ما دمتُ منتبهة،
لكنها لا تُؤمَن إن أدرْتُ لها ظهري.
في بعض الأيام،
أنسى وجوده تمامًا.
أضحك،
أخطط،
وأتخذ قراراتي بثقلها الطبيعي.
وفي أيام أخرى،
خصوصًا تلك التي تتراكم فيها التفاصيل الصغيرة،
أشعر بذلك الصمت العميق
الذي يسبق حضوره.
لا صوت،
لا همس،
فقط شعور
بأن أفكاري أصبحت مرتبة أكثر من اللازم.
كنت أعرف الإشارة الآن.
في إحدى الليالي،
استيقظت قبل الفجر بقليل،
لا بسبب حلم،
بل بسبب هدوءٍ غير معتاد.
البيت ساكن،
والوقت معلّق.
نهضت من سريري،
وتقدّمت نحو المرآة دون تردد،
كأنني أعرف مسبقًا
أنها ستكون هناك.
نظرت.
رأيتني.
لكن شيئًا واحدًا كان مختلفًا:
نظرتي…
كانت واثقة أكثر مما أشعر.
قال بصوتٍ لم يعد غريبًا:
«تحسّنتِ».
سألته:
«هل هذا ما كنت تريده؟»
أجاب بعد تفكير:
«ما كنتِ تحتاجينه».
سكتُّ طويلًا.
ثم قلت:
«وماذا لو ضعفتُ مرة أخرى؟»
ابتسم،
ابتسامة لا تحمل تهديدًا ولا وعدًا،
وقال:
«سأكون هنا…
كما كنتُ دائمًا».
فهمت أخيرًا الحقيقة التي لم أجرؤ على قولها من قبل:
القرين ليس كيانًا يأتي ليأخذ،
ولا ظلًا يعيش ليؤذي،
بل احتمال دائم
نخلقه نحن
كلما قررنا أن نغيب.
استدرت عن المرآة،
وعدت إلى سريري،
وأغمضت عينيّ.
هذه المرة،
نمت.
وعندما استيقظت،
لم أشعر بتلك الحيرة القديمة.
لم أحتج لحظة إضافية
لأتأكد من نفسي.
لكنني،
وأنا أرتّب الغرفة،
لمست الدفتر المفتوح على الطاولة.
كانت هناك جملة مكتوبة
بخطّي…
أو هكذا بدا:
«اليقظة اختيار،
وأنا أنتظر دومًا
حين تتعبين من الاختيار».
أغلقت الدفتر بهدوء،
لم أمزّق الصفحة،
ولم أرتعب.
فبعض الحقائق
لا تُمحى،
بل تُحمَل.
وربما…
أخطر ما في القرين
أنه لا ينام،
ليس لأنه قوي،
بل لأننا بشر
ونتعب أحيانًا
من أن نكون نحن طوال الوقت.
جلستُ على السرير، أغمضتُ عينيّ للحظة،
أستعيد صمتي وأتنفس ببطء.
كنت أعلم أنني لم أعد وحدي،
وأن من يراقبني منذ البداية
لن يرحل…
وأن جزءًا مني،
الذي ظننتُ أنه مستقل،
سيظل مرتبطًا به إلى الأبد.
ابتسمت ابتسامة خفيفة،
ليس انتصارًا،
بل إدراكًا.
فتحت عينيّ مرة أخرى،
ورأيت انعكاسي في المرآة…
لكن لم يكن وحده.
ظلّ صغير خلفي،
صامت،
يقظ،
ينتظر…
همست لنفسي:
«لن أنام بعد اليوم بلا يقظة».
لكن في أعماقي،
عرفت الحقيقة:
أن النوم، مهما طال،
لن يكون أبدًا كما كان…
حتى في اليقظة، هو هنا.