رواية رعب: البيت الذي يتنفّس

رواية رعب: البيت الذي يتنفّس

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

image about رواية رعب: البيت الذي يتنفّس

لم يكن البيت موجودًا في أي خريطة.
هذا أول ما لاحظه ياسين حين انتقل مع أسرته إلى القرية. سأل الجيران عنه، فتبادلوا نظرات صامتة، ثم غيّروا الموضوع. لم يكن ذلك طبيعيًا، لكن الفضول كان أقوى من التحذير الصامت في عيونهم.

كان ياسين في السادسة عشرة، عقلُه يميل للتفسير المنطقي، لا يؤمن بالخرافات، لكنه في أعماقه كان يشعر أن بعض الأماكن تحمل ذاكرة… وأسرارًا لا تحب أن تُكتشف.

البيت كان يقف وحيدًا عند أطراف القرية، جدرانه متشققة، وسقفه مائل قليلًا، كأنه ينحني بثقل السنين. في الليل، كان ياسين يراه من نافذة غرفته، ويشعر بشيء غريب… كأن البيت لا ينام.

في الليلة الأولى، سمع صوتًا.
لم يكن طرقًا، بل أشبه بـ نَفَسٍ بطيء.
شهيق… زفير… منتظم، عميق.

ظنّ أن الصوت من الرياح، لكن النوافذ كانت مغلقة. حاول النوم، لكن الصوت استمر، ومعه شعور بأن أحدًا يقف خلفه. التفت فجأة، فلم يجد شيئًا، سوى الظل الطويل لخزانة الملابس.

في اليوم التالي، قرر الاقتراب من البيت.
كل خطوة كانت أثقل من السابقة، والهواء حوله أبرد، رغم شمس الظهيرة. عندما لمس الباب الخشبي، شعر برجفة خفيفة، كأن الباب… دافئ.

دفعه، فانفتح ببطء، مصدِرًا أنينًا منخفضًا.

في الداخل، كان الغبار كثيفًا، لكن الأرض نظيفة بشكل غريب، كأن أحدهم يمشي هنا باستمرار.
وفجأة…
أُغلق الباب خلفه.

تجمّد مكانه.
حاول فتحه، لكنه لم يتحرّك.
ثم سمع الصوت مجددًا… أوضح هذه المرة.
كان يأتي من الجدران.

"لا تدخل… لا تدخل…"

لم تكن كلمات تُقال، بل أفكار تُزرع في رأسه. تراجع ياسين، وقلبه يخفق بقوة، لكنه لاحظ شيئًا أكثر رعبًا:
الجدران… كانت تتحرّك ببطء.
ليست حركة واضحة، بل تمدّد وانكماش، تمامًا مثل صدر يتنفس.

ركض نحو السلم المؤدي للطابق العلوي. كل درجة صعدها أصدرت صوتًا يشبه الأنين. في الأعلى، وجد غرفة واحدة مفتوحة، وفيها مرآة كبيرة.

اقترب بحذر…
ورأى نفسه.

لكن الانعكاس لم يتحرك مثله.
ظل واقفًا، يبتسم.

قال الانعكاس بصوت خافت:
"أخيرًا عدت."

صرخ ياسين:
"أنا لم آتِ من قبل!"

ضحك الانعكاس، وضحكته لم تكن بشرية.
"كل من يسكن هذه الأرض يزورني… حتى لو نسي."

بدأت الذكريات تتدفق في رأسه.
رأى أطفالًا عاشوا في القرية قديمًا.
رأى خوفهم.
سمع صراخهم المكتوم.
البيت لم يكن يقتلهم…
كان يحتفظ بهم.

البيت كان يتغذّى على الخوف، على الصمت، على الأسرار التي لم تُقل.

انكسرت المرآة فجأة، وتلاشى الانعكاس.
انهار الجدار خلفه، كاشفًا عن مخرج ضيق.
ركض ياسين دون أن يلتفت، حتى خرج وسقط على الأرض خارج البيت.

في تلك الليلة، احترق البيت.
لم يعرف أحد كيف.
لكن الجيران وقفوا يراقبون بصمت، كأنهم يشهدون نهاية شيء قديم.

اختفى الصوت.
اختفى التنفّس.

بعد أيام، سأل ياسين أحد الشيوخ عن البيت.
قال الرجل بهدوء:
"بعض البيوت تُبنى من حجر… وبعضها من خوف."

في الليل، حين أطفأ ياسين الضوء، سمع شيئًا خافتًا…
ليس من الخارج.
بل من داخله.

شهيق…
زفير.لم يستطع ياسين النوم تلك الليلة.
الصوت لم يكن وهمًا. كان واضحًا الآن… منتظمًا، قريبًا، كأنه خرج من صدره هو.

جلس على سريره، يضع يده على قلبه.
كان النبض متزامنًا مع ذلك الشهيق والزفير.

في الصباح، نظر في المرآة طويلًا.
ملامحه كما هي، لكن عينَيه… كانتا تحملان شيئًا غريبًا، ظلّ خوف قديم لم يعشه وحده.

في المدرسة، بدأ يسمع همسات.
أصوات خافتة تناديه باسمه، تأتيه من الممرات الفارغة، من خلف الأبواب المغلقة. كلما التفت، لا يجد أحدًا.

حاول تجاهل الأمر، لكن في الحصة الأخيرة، رأى زميله كريم ينظر إليه برعب.
قال كريم بصوت منخفض:
"إنت كويس؟"

سأله ياسين بتوتر:
"ليه؟"

ابتلع كريم ريقه:
"كنت… بتتنفّس بصوت عالي. مش طبيعي."

تجمّد ياسين.

عاد إلى البيت قبل الغروب. لم يشعل الأنوار. جلس في الظلام، يستمع.
الصوت ازداد وضوحًا.

ثم سمع صوتًا آخر
صوت خطوات.

من داخله.

أغمض عينيه، وفجأة وجد نفسه واقفًا في ممر طويل، جدرانه تشبه جدران ذلك البيت. نفس الشقوق. نفس الدفء المزعج.

في نهاية الممر، كان هناك باب.
وعلى الباب… اسمه محفورًا.

فتح الباب ببطء.

الغرفة كانت مليئة بظلال.
أشكال بشرية بلا ملامح، واقفة بصمت.
وعندما خطا خطوة للأمام، تحرّكت جميعها في وقت واحد.

قال صوت مألوف:
"البيت لم يحترق…"

ظهر انعكاسه مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن في مرآة.
كان واقفًا أمامه.

"البيت انتقل."

صرخ ياسين:
"فين؟!"

ابتسم الانعكاس ابتسامة باردة:
"إلى من نجا."

تراجع ياسين:
"أنا مش بيت!"

اقترب الانعكاس، ووضع يده على صدره.
"أنت الذاكرة.
وأنت الخوف اللي محدش واجهه."

بدأت الظلال تندمج، تدخل فيه، واحدة تلو الأخرى.
شعر بثقل رهيب، كأن مئات الأنفاس تسكن رئتيه.

صرخ بكل ما يملك:
"أنا مش هاسكت!"

وفجأة…
توقف كل شيء.

استيقظ ياسين على الأرض، يتصبب عرقًا.
الصمت كان كاملًا.

مرّت أيام…
ثم أسابيع.

لم يعد يسمع الصوت.
لم تعد الهمسات.
لكن أحيانًا، عند الغروب، يشعر بثقل في صدره، وكأن أحدهم يطلب أن يُسمَع.

بدأ ياسين يكتب.
كتب عن البيت.
عن الظلال.
عن الأطفال الذين لم يتكلموا.

ومع كل صفحة، كان يشعر أن شيئًا يخرج منه.

في آخر صفحة كتب:
"الخوف الذي لا نواجهه، يبحث عن صدر آخر ليتنفّس فيه."

أغلق الدفتر.
تنفّس بعمق.

وفي مكانٍ ما…
كان هناك بيت جديد
ينتظر
من يصمت.لم يكن ياسين يتوقع أن الكتابة ستنقذه، لكنها فعلت.
مع كل صفحة كتبها، كان الصوت يضعف، والضغط على صدره يخفّ، كأن الكلمات تحوّلت إلى منافذ يهرب منها الخوف.

لكن في الليلة الأخيرة، قبل أن يضع النقطة الأخيرة، عاد الصوت مرة واحدة…
أقوى من أي وقت مضى.

شهيق عميق.
زفير طويل.

اهتزّ المصباح في غرفته، وانطفأ.
الظلام ملأ المكان، لكن ياسين لم يتحرّك.
كان يعرف الآن.

قال بصوت ثابت، رغم الخوف:
"أنا سامعك."

ظهر الممر مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يُسحب إليه.
هو من دخل بإرادته.

الظلال كانت هناك، لكنها لم تقترب.
كانت تنتظر.

ظهر البيت، لا بجدرانه، بل كفكرة… كتلة سوداء نابضة.
قال بصوت واحد، يحمل عشرات الأصوات:
"نحن لم نُسمَع."

ردّ ياسين:
"وأنا مش هاسكت."

فتح دفتَره، وبدأ يقرأ بصوت عالٍ.
قرأ أسماء.
مشاعر.
خوفًا مكبوتًا.
وحدهً طويلة.

مع كل كلمة، كانت الظلال تتلاشى.
ليست تصرخ… بل تهدأ.

البيت بدأ ينهار، ليس احتراقًا، بل ذوبانًا، كأنه لم يكن حجرًا يومًا، بل خوفًا متراكمًا.

آخر ما سمعه ياسين كان همسة واحدة:
"شكرًا."

ثم…
صمت.

استيقظ في غرفته مع شروق الشمس.
الهواء طبيعي.
صدره خفيف.
لا أنفاس غريبة.
لا همسات.

مرت سنوات.

كبر ياسين، وترك القرية، لكنّه أصبح كاتبًا.
لم يكتب عن الرعب للترفيه، بل ليُخرج ما يصمت عنه الآخرون.

وفي كل مرة ينتهي من قصة، يشعر أن بيتًا ما…
انهار.

لكن في آخر صفحة من أول كتاب له، كتب جملة واحدة:

"الخوف يعيش في الصمت…
ويموت حين يُروى."

وأغلق الكتاب.

النهاية. 🖤

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
Kamal Elshimy تقييم 0 من 5.
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.