حينما يعاهدك شخص على البقاء و يجبرك انت على الرحيل
حينما يعاهدك شخص على البقاء و يجبرك انت على الرحيل
في مدينة تعج بالحياة والأضواء الساطعة، كان هناك شاب يدعى "كريم" وفتاة تُدعى "ندى". التقى الاثنان في حفل صيفي على شاطئ البحر. كان اللقاء الأول بينهما مليئًا بالشغف والمفاجأة. تبادلا النظرات التي تحمل الكثير من الفضول والاهتمام، وكأن القدر خطط لهذا اللقاء من قبل. سرعان ما انجذب كل منهما للآخر، وبدأت قصة حب بينهما كانت تشبه أحلام المراهقين في روعتها.
قضى كريم وندى أشهرًا طويلة معًا، يتشاركان الضحكات والأحلام، يتنزهون في المدينة ليلاً ويتبادلون الحديث عن المستقبل. كان كريم يعد ندى دائمًا بأنه لن يتخلى عنها مهما كانت الظروف. وكانت ندى تصدقه، فقد كانت ترى في عينيه صدقاً لا يمكن الشك فيه. كانا يعاهدان بعضهما على البقاء سوياً إلى الأبد، مهما كانت التحديات.
ولكن، بمرور الوقت، بدأت الأمور تتغير. بدأ كريم يبتعد قليلاً، لم يعد يهتم بتلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تعني لندى الكثير. لم يعد يسأل عن يومها، أو يُفاجئها بوردتها المفضلة كما كان يفعل من قبل. أصبح يتجنب الحديث عن المستقبل، ويتصرف كأنه مشغول بأشياء أخرى. في البداية، حاولت ندى أن تتجاهل تلك التغييرات، ظنًا منها أنها مجرد ضغوط عمل أو أمور تافهة ستمر.
لكن الأيام مرت، ولم تتحسن الأمور. على العكس، بدأت تشعر ندى بأن كريم يتجنبها عمداً. كان يجلس بجوارها ولكن عقله كان في مكان آخر. أصبحت المحادثات بينهما سطحية، مجرد كلمات فارغة من المشاعر التي كانت تملؤها في السابق. شعرت ندى بأن شيئًا ما خطأ، ولكنها لم تستطع أن تفهم ما هو.
قررت أن تواجهه. في إحدى الأمسيات، جلست معه في المقهى الذي كانا يعتادان الذهاب إليه. نظرت في عينيه وقالت: "كريم، أشعر بأنك تتغير. لم تعد كما كنت من قبل. هل هناك شيء تريد أن تخبرني به؟"
تردد كريم قليلاً قبل أن يجيبها ببرود: "لا، لا شيء. ربما أنتي من تشعرين بالتغيير، لكن لا شيء تغير حقاً."
كانت كلماته باردة كالصقيع، شعرت ندى بوخزة في قلبها. لم يكن كريم الشخص الذي تعرفه. الشخص الذي أحبته. كان شخصًا آخر تمامًا. أدركت أن كريم، على الرغم من وعوده، كان يجبرها على الرحيل بطريقته الخاصة. لم يكن يريد أن يكون هو الشخص الذي ينهي العلاقة، بل كان يريدها هي أن تأخذ القرار.
أصبحت الليالي طويلة، بلا نوم. كان عقل ندى يدور في حلقة مفرغة من الأسئلة والمخاوف. ماذا حدث لحبهما؟ أين ذهب كريم الذي وعدها بالبقاء؟ لماذا لم يعد يهتم؟
وبينما كانت تقلب الأفكار في رأسها، أدركت الحقيقة المُرة. كريم لم يرد أن يتركها، لأنه كان جبانًا. كان يخشى أن يُلام، أن يُعتبر الشخص الذي خذلها. ولكنه أيضاً لم يعد يرغب في البقاء، لذا اختار أسوأ طريق ممكن؛ أن يتغير ويصبح بارداً حتى تجبر هي نفسها على الرحيل.
كانت ندى تعشق كريم، ولكنها أيضاً كانت تعشق كرامتها. أدركت أنها لا تستطيع أن تبقى مع شخص لا يريدها، شخص يخشى أن يكون صادقاً معها حتى في فراقه. قررت أن تواجهه للمرة الأخيرة، ليس لتستعيده، بل لتستعيد نفسها.
في الليلة التالية، اتصلت به وطلبت منه أن يلتقيا. كان اللقاء هذه المرة في مكان آخر، بعيداً عن الذكريات التي جمعت بينهما. جلسا في مقهى هادئ، ولم يجرؤ أي منهما على بدء الحديث. كان الجو مشحوناً بالتوتر، والهواء يثقل بالكلمات التي لم تُقل بعد.
أخذت ندى نفساً عميقاً وقالت: "كريم، أعرف ما تحاول أن تفعله. أنت تريدني أن أكون من يترك، حتى لا تكون أنت الشخص السيء في هذه القصة. لكني أقول لك الآن، لا بأس. سأكون أنا من يرحل، ولكن ليس لأنك أجبرتني، بل لأنني أستحق أفضل من هذا."
نظر كريم إلى ندى وعيناه تلمعان بشيء من الحزن، لكنه لم ينطق بكلمة. أدرك في تلك اللحظة أنه خسرها بالفعل، وأن ما فعله كان أكثر قسوة مما كان يعتقد.
وقفت ندى وغادرت المقهى بخطوات واثقة، شعرت بنوع من الارتياح، كأن حملاً ثقيلاً قد أُزيح عن صدرها. عرفت أنها اتخذت القرار الصحيح، وأنها اختارت نفسها وكرامتها فوق كل شيء. لقد خذلها كريم، ولكنها أيضاً أدركت أنها خذلت نفسها حينما سمحت لنفسها أن تعيش في وهمٍ زائف لفترة طويلة.
عادت إلى شقتها، وجلست أمام نافذتها المفتوحة. سمحت لنفسها أخيراً بالبكاء، ولكنها كانت دموع التحرر. أدركت أنها بحاجة إلى ذاك الهدوء، إلى لحظات من الصمت، لتستطيع أن تجد نفسها من جديد. وبينما كانت الدموع تنهمر على وجنتيها، شعرت بأنها بدأت تعيد اكتشاف ذاتها، بعيداً عن كل تلك الضغوط والتوقعات.
في الأيام التالية، بدأت ندى تركز على نفسها، على الأشياء التي تُسعدها. بدأت بممارسة هواياتها التي أهملتها لفترة طويلة، وتعرفت على أصدقاء جدد، وبدأت ترى الحياة بنظرة جديدة. أدركت أن الفراق لم يكن نهايةً، بل كان بداية لرحلة جديدة، رحلة لاستكشاف ذاتها والعثور على السلام الداخلي.
أما كريم، فقد شعر بفراغ كبير بعد رحيل ندى. حاول العودة إلى حياته السابقة، ولكنه أدرك أنه خسر شيئًا ثمينًا. شيئًا لن يتمكن من استعادته مرة أخرى. ربما كان بإمكانه أن يكون صادقاً معها، ولكن الآن، فات الأوان.
وهكذا، تعلمت ندى أن الحب ليس فقط أن تبقى بجانب شخص آخر، بل أن تبقى بجانب نفسك أيضاً. وأنه لا بأس إذا خذلها الآخرون، فهي قد وجدت قوتها وسلامها في النهاية. في النهاية، كان الهدوء والصمت هما ما قاداها إلى ذاتها من جديد، بعيداً عن كل ذلك الصخب والضجيج.