ظل الغيمة: قصة يوسف وسلمي

ظل الغيمة: قصة يوسف وسلمي

0 المراجعات

رواية قصيرة: “ظل الغيمة”

في قرية هادئة تتناثر بيوتها البيضاء بين التلال الخضراء، عاش شاب يُدعى يوسف. كان قلبه مملوءًا بأحلام لا يحدّها سقف، وأبرزها أن يصبح يومًا ما كاتبًا كبيرًا، يملأ الدنيا بقصصه ويترك أثرًا في القلوب. غير أن الحياة لم تكن رحيمة دائمًا، فقد وجد نفسه مجبرًا على العمل في الحقول مع والده، يشقى تحت الشمس، يزرع ويحصد، بينما يزرع في داخله كلمات مؤجلة تنتظر لحظة ميلادها.
كان أهل القرية يعرفونه بخياله الواسع، فقد كان يجلس مع الأطفال بعد يوم عمل طويل، ويروي لهم حكايات عن الغيوم التي تهبط ليلًا لتهمس بالأسرار، وعن الطيور التي تحلّق بعيدًا حاملة رسائل القدر، فيضحكون ويطلبون منه المزيد. كان يوسف يبتسم دائمًا، لكنه في أعماقه يتمنى لو يكتب هذه القصص على الورق بدلًا من أن تتبدد في الهواء.

في صباح ربيعي، وبينما كان يسقي الأرض، لمح غيمة صغيرة تنزلق ببطء في السماء المنخفضة. بدت مختلفة عن سائر الغيوم، كأنها تبحث عن صديق أو تفتش عن سر. شعر يوسف بنداء غامض يجرّه إليها، فترك دلو الماء وتبعها بخفة. كان يضحك في نفسه من غرابة الموقف، لكن الفضول دفعه للمضيّ. قادته الغيمة إلى أطراف القرية، حيث شجرة زيتون قديمة تمتد جذورها في الأرض كأنها تحفظ ذاكرة القرية كلها. هناك وجد فتاة تجلس بصمت، تحدّق في الغيمة وتبتسم.
اقترب منها يوسف وسألها:
هل تنتظرين شيئًا من تلك الغيمة؟

التفتت إليه الفتاة، وبدت عيناها لامعتين بالحلم، ثم قالت:
كل صباح أراها وحدها، وأتخيل أنها تحمل رسالة من أبي… لقد رحل منذ سنوات، وأظن أن الغيمة تسافر لتعيد لي شيئًا من صوته.

كان اسمها سلمى، ابنة القرية الهادئة، ذات قلب شفاف وروح فنانة. جلس يوسف بجوارها، وسرعان ما اكتشفا أن بينهما خيطًا خفيًا من التفاهم. تحدثا طويلًا عن أحلامهما وأحزانهما، عن الكلمات التي لم تُكتب بعد، وعن الرسومات التي لم تُكتمل. فقد كانت سلمى تحب الرسم بقدر ما يحب يوسف الكتابة، وكان كل منهما يخفي شغفه عن الناس خوفًا من السخرية.

تكررت اللقاءات تحت شجرة الزيتون، وصارت الغيمة الصغيرة ترافقهما في كل مرة، تكبر ببطء، وتزداد صفاءً كأنها تنمو مع أحلامهما. كتب يوسف قصائد عن الغيمة، وكانت سلمى تقرؤها وتزين هوامشها برسومات رقيقة، حتى بدا الأمر وكأن الغيمة قد أصبحت رمزًا لهما، شاهدًا على ولادة صداقة عميقة قد تتحول يومًا إلى حب.

وفي إحدى الأمسيات، والسماء ملونة بشفق برتقالي، قالت سلمى وهي تبتسم:
 الغيمة اليوم أجمل من أي وقت مضى… أشعر أنها تحمل لنا بشارة جديدة.
أجاب يوسف بنبرة حاسمة:
ربما حان الوقت لنصنع حلمنا بأيدينا، بدلًا من أن نكتفي بتخيله.

ومن هنا وُلدت فكرة الكتاب المشترك. قررا أن يدوّنا قصص القرية: حكايات الجدّات عن الماضي، أماني الأطفال، أتعاب الفلاحين، ضحكات الصيادين، وحتى أسرار الليل التي لا يعرفها سوى العابرين في الطرقات. كان يوسف يكتب الكلمة، وسلمى تحولها إلى صورة، وبين النص والرسمة كانت الغيمة تحوم فوقهما، كأنها تُبارك جهدهما وتعدهما بأن الحلم قريب.

مرت الأشهر، والكتاب يكتمل فصلًا بعد فصل. وفي يوم مشرق اجتمع أهل القرية تحت شجرة الزيتون في احتفال صغير، حيث أعلن يوسف وسلمى عن كتابهما. جلس يوسف يقرأ أول قصة، بينما راحت سلمى ترسم أمام الجميع صورة لغيمتهما البيضاء. أصغى الحاضرون بدهشة، وبعضهم بدموع، حتى قالت امرأة مسنّة بصوت مرتعش:
 لقد منحتمونا الأمل من جديد… وجعلتم الغيمة صديقتنا جميعًا.

في تلك الليلة، جلس يوسف وسلمى يتأملان السماء. بدت الغيمة أكبر وأقرب من أي وقت مضى، متوهجة بنور القمر. همست سلمى:
 الغيمة لم تعد وحيدة… لقد جمعت كل أحلامنا معها.
ابتسم يوسف، وأمسك يدها قائلًا:
وأنا أيضًا لم أعد وحيدًا.

ومنذ ذلك الحين، أصبح يوسف كاتب القرية، وسلمى رسامتها، والغيمة رمزًا حيًا يذكرهم بأن الأحلام تبدأ صغيرة، لكنها تكبر بالإصرار، وتظلل الجميع بظلها الدافئ.
وهكذا بقي ظل الغيمة يحكي قصتهما، قصة الكلمات التي غيّرت قرية صغيرة، وأثبتت أن الحلم حين يجد قلبين يؤمنان به، يصبح قادرًا على أن يغير العالم كله.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة