هل هناك من يرحل وحيدًا

هل هناك من يرحل وحيدًا

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

يرحل وحيدًا

استيقظ على الكرسي الخشبي، رأسه متدلٍ خلف المسند، وشعيرات شاربه المتدلي تتمايل فوق شفته السفلى.

على مقربة من سريره البالي، كانت المدفأة القديمة في وضع مائل، وكأنها تهدد بالسقوط في أي لحظة.

انتشرت أشياؤه المبعثرة في أركان الغرفة، بين الكتب الممزقة والثياب البالية المعلقة على مسامير في الجدار. إلى جانبها، بقايا حذاء قديم وستارة مهترئة كانت بيضاء في يوم ما. كل هذه التفاصيل تشهد على بؤس حال الرجل وافتقاره.

لم يكن هكذا في الماضي. لم تكن حياته بهذا السوء أبدًا.

كان رجلاً نشيطًا، مخلصًا لصحيفته التي قضى فيها معظم وقته، بعيدًا عن أهله. ظل يركض وراء الخبر الاستثنائي والقصة المذهلة، حتى وقف على أعتاب الحقيقة. لم يكتفِ بمشاهدتها من بعيد، بل اقترب منها ولمس أبوابها المغلقة.

طار خلفها بسعادة طفل يلاحق فراشات الحقول، لكنه كلما اقترب، تعثر بشيء ما، فتطير الفراشات بعيدًا في الهواء.

حاول أصدقاؤه ثنيه عن عزمه. حذروه أن مغامرته هذه سيكلفه ثمناً باهظًا، لكن عناده كان أكبر من محبتهم وتحذيراتهم. قال لهم: "ما أفعله هو من أجلي ومن أجلكم".

جربوا مرة ومرتين، ثم أدركوا أنهم لا يستطيعون فعل المزيد، فتركوه لوهمه، عارفين كيف ستنتهي حكايته.

هذا العناد، وتلك النزاهة، أزعجت الكثيرين ممن يطاردهم شبحه أينما ذهبوا. خطواته تعلو ووقعها يكبر، وهم يلتفتون وراءهم بحذر، وكلابهم الطليقة تطارده. هو لا يطلب شيئًا لنفسه. لا يهتم بجشع المالك ولا بضرائب الحكومة المجنونة، ولا حتى بحالته الصحية المتدهورة بسبب السكري.

كان راضيًا بشقته المتداعية في حي "السيدة"، بين الأطفال المتسخين والباعة الجائلين ونفايات الورش الصناعية.

"سأشفى من سقمي وعوزي عندما ينقرضون جميعًا"، كان يقول لطبيبه الذي أجبر على زيارته.

image about هل هناك من يرحل وحيدًا

"أنت تعاني من ارتفاع حاد في ضغط الدم"، قال الطبيب.

لم يفاجأ بالخبر. ضحك بصوت مبحوح: "هاهاها... أعرف ذلك منذ زمن. هذا الصداع اللعين ينخر رأسي كل يوم، حتى أنني أتمنى أن أتفجر طلبًا للراحة".

كان على بعد خطوات قليلة من جنونه اللذيذ... تلك المتعة التي تسحره كلما اقترب من فراشاته الملونة. وكلما أوشك على الإمساك بها، كانت تفر من بين أصابعه من جديد.

وفي مساء شتوي بارد، مثقل بالصمت والصقيع، كان جالسًا بجانب كومة من الكتب التي أكلها الدهر والرطوبة. الجيران نائمون، والسجون ساهرة، والحكومة تخطط، والملاهي تعبث.

كانت سهرة حميمة، من تلك التي افتقدها منذ زمن. البرد قارس والليل في منتصفه. ثوانٍ قليلة وتدق الساعة منتصف الليل. النعاس يتملك عينيه، وحركاته تتباطأ، ورأسه يعج بالهواجس، وسيجارته لا تنطفئ.

كان يبحث عن فخ لفراشاته الناعمة المتوالدة. يبحث للبلدة عن خلاص من فيروساتها.

"أيها الخراب المتغلغل فينا... لا بد أن نتطهر منك، ونستلقي على ظهورنا بلا خوف، نحلم كما نشاء. سيحدث هذا. لا شيء يشغلني أكثر منك".

فجأة، انقطع هدوء الليل بضجيج محرك سيارة وصراخ إطارات. ثم دقّات متتالية على الباب: "طق طق طق".

ارتعدت روحه. نهض مسرعًا لفتح الباب قبل أن يهوي تحت قبضاتهم.

وجد مجموعة من الرجال يتقدمهم "فيروس" غاضب. تمنى أن يضحك من قلبه وهو يرى أول انتصاراته، لكن الخوف والبرد منعاه.

قال له الفيروس: "أكاد أسمع صرير أسنانك من البرد وأنا خارج جحرك. دعنا نغمرك بالدفء والطيّبات".

ردّ الرجل: "أنا لا أعرفك. أنا ضد المفسدين والأوبئة و...".

قاطعه الفيروس: "أتظن نفسك حارس الأمة؟ إنك تزعجنا بشعاراتك أيها البائس المنقرض".

تركوه وغادروا. عندها، انتبه إلى هاجس ظل يطارده كلما تأمل في شقاء حياته، وكلما رأى ما آلت إليه حاله بسبب عناده.

انتفض كما لو أنه استفاق من كابوس. مسح عن ذاكرته كل ما تسلل إليها في تلك اللحظة الواهنة. بقي صوت وحيد يدوّي في أذنيه، يناديه بين الحين والآخر: "استعد لعنفوانك أيها البائس".

تعود على زياراتهم "الودية" ومطارداتهم "التهديدية"، واعتاد رائحتهم الغريبة... رائحة العفن الممزوجة بالعطور باهظة الثمن. كان يكرهها ويكره مصدرها.

فاندلعت كلماته على صفحات الجرائد حربًا ضروسًا على الفيروسات والأوبئة. ظل يشعلها يومًا بعد يوم، منتفشًا بانتصاراته الصغيرة على جشعهم وفسادهم، حتى نسي كل من حوله.

سألته حبيبته: "لماذا تفعل هذا وحدك؟ دعنا نحيا بسلام. لن يجلب لك عنادك سوى البؤس و...".

قاطعها: "أفعل هذا لأنني أملك الإرادة. سأرجمهم بحروفي حتى يندثروا. أعرف أنني أظلمك، لكنني لن أسكت وأتركهم يسبحون في دماء الضعفاء".

قالت: "لن أتحمل كل هذا".

أجاب: "لا أطلب منك التحمل. سأخوض حربي وحدي، وليكن ما يكون".

كانت هزيمة مفاجئة... لا، بل سقوط مريع.

يا للمرارة! حبيبته، صحته، أمه، كلماته... كلها تبددت مثل حلم. والصداع اللعين لا يزال ينخر رأسه، يباعده عن الأوبئة القذرة. وهو وحده، يصارعهم بسلاح أوشك أن ينفذ.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة
-