
هل هناك من يرحل وحيدًا 2
خذيني إليك من جديد
اشتعلت السيجارة بين أصابعي، بينما انهار في عقلي غضبٌ عاصف، ككرة ثلجية سوداء بلون الدم المتخثر، تفوح منها رائحةٌ مختلطة بين القرنفل وجيف الموتى.
بحثت يائسًا عن حبة مسكنة لأوقف صراع الأحصنة المتوحشة داخل جمجمتي، التي وضعتها بين ركبتيّ. يا للوجع! حاولت أن أستغيث، أن أصرخ، لكن صوتي احتجز في فمي، رافضًا تجاوز شفتيّ الداميتين بجراح صمتي الطويل.
حشرت رأسي بين وسادتين، وتقلبت على فراشي محاولاً استنزال النوم. وفي اللحظة التي بدأ فيها الصداع يتراجع، عاد ليشتعل في ذهني مرة أخرى جمرات الوعي المستكين، الذي نبت كفطر سام.
أنا اللهب وأنا الهشيم، بعضي يأكل بعضي!
حينها بحثت عن فضيلة الدموع، ثم أفقت... لأدرك أنني أحمق. نعم، أعترف الآن بأنني أحمق، وبأن كل عمري لم يعلمني ما علمتينيه خلال عامين فقط.
أعترف أن غابات عينيك الكحلتين أقسى من ليلة شتاء عاصفة ابتلعت أحلام عصفور صغير. أعترف أني، رغم علقمك، ما زلت أرشف عسلك المسموم، وأني رغم كرهي لك، ما زلت أهواكِ.
يا للجنون! ماذا فعلت بي؟
مثل ممثلة بارعة، خطفتِ أضواء حياتي يومًا وأضيءت بها ليلك المظلم. كيف تحملت جنونك الجامح ووحشيتك المكبوتة؟ كيف قبلت بدور المخدوع؟ كيف تناسيت كبريائي وكرامتي؟ كيف سمحت لدموعي أن تسقي شجرة انكساري؟ كيف آمنت أن السواد، في ضوء الحب، يصير نهارًا؟ كيف صدقت دمعك الخائن على خديك، ورأسك على صدري، وأنت تعدين بما لا تفعلين؟
مليون مرة أحمق أنا... تحبين الكذب، وأنا لم أعد مضطرًا لتصديقه. فقد كنت أصدق كلماتك، والآن حان وقت النهاية.
إن كان الحب قدرًا، فأنت قدري. وإن كان اختيارًا، فأنت اختباري. ولا عجب، فأنا من شارك في صنع هذه الحكاية.
إليكِ، يا حبيبتي، أبعث باقات من زهور عمري الحزين، وأكتب بكل أقلام العالم: أحبكِ وأكرهكِ. إليكِ أسطر حبي بدماء قلبي. أحبكِ / أكرهكِ.
ما زلت أحمل لك حبًا لم نستطع معًا تحمله، حبًا يدفعني لأن أختفي من هذه الدنيا، لأنمزج في روحك. نفسي تواقة إليك، مولعة بك.
تعلمين أنني زرعت حبنا طهرًا، وسقيته إخلاصًا، وحفظته أمانًا. فلم قتلتِ تلك الريحانة في داخلي غدرًا؟
أنا من أضرم في إحساسك المشلول ناري، وصنعت من الحطب نارًا. كم قرأتِ عن الحب وتوهمتيه! بعدي، يراك الناس وكأنهم لم يروا في الكون مثلك.
كنتِ قبلي كشجرة صحراء... لا رطب فيك ولا تمر. وبيدي صرتِ بستانًا. نسقتك ولم أمل. في عينيك رصعتُ آلاف الشهب، وعلى شفتيك أوقدت اللهب.
آه... كم أشتاق إليك!
خذيني إليك من جديد بين جناحي يمامة، لأصير بريد العاشقين، أو على ظهر غيمة، يا وطني البعيد!
أصبحت الحياة ظلامًا، وتصفيقًا حارًا لممثل يغمره الجمهور بالطمأنينة. مشهد تلتقطه الذاكرة، فيتماهى ويخبو، ثم يضيع في زحمة الدروب... الدروب المؤدية إلى شتاء الغربة الطويل.
والآن تتمردين؟ لم أعد أغضب أو أجن عندما تزدادين جمالاً، أو عندما يزيد الطلب وتنسين ماضينا.
امددي جسورك للجميع... فمن سواي سيكون فارسك المنتظر؟ ماذا سيفعل بمن صنتها ورفعتها قدرًا؟ قد تصبحين دمية، أو محظية، أو لعبة بين يديها. فبدون حبي... أنت لا شيء. ولن تكوني.
هل تظنين أن النار تكون بلا لهب؟!

هاهي صورتك المرسومة في ظل الشمس تطاردني أينما رحت، فأهرب منها راكضًا. ترسمين أحلامك على نافذة الخيال وتعلقينها في مهب الريح، فتعترض طريقي. والأرض تجري خلفي، وكأنها تريد سحقي.
حمّلت جسدي -المثقل بالهموم- ورحلت. لم أكن ليلاً يجتر السواد، ولا نقشًا حفرته كآبة السنين. ولم يكن قرار الرحيل سهلًا لأكتفي بنظرة وداع لكل الوجوه التي ألفتها.
وضعت جسدي بين الركام البشري. الساحة تغص بالحافلات وهموم الناس. الأرض والبرد والأجساد الهزيلة. والليل يصحو ويمطرهم بالأرق.
أنتظر ذلك الصوت الصاخب من مكبر الصوت ليعلن وقت الرحيل. والساحة تعج بالسيارات والصخب.
أحمل جسدي وحقيبة تحمل ملامحي التي أريد أن يراني الناس بها.
"ما الذي أتى بك إلى هنا؟"
وقفت حائرًا أمام السؤال. كل ما أتذكره أني استيقظت مبكرًا، وحملت حقيبتي وأتيت إلى هنا، حيث تنطلق الحافلات إلى خارج المدينة. لا يهم إلى أين... المهم أن أغادر هذه المدينة.
يضحك الرجل كثيرًا وهو يسمع تبريرات قراري. يضحك حتى يجذب انتباه المارة عند المتجر. يضحك الواقفون عند المدخل. ينضم الآخرون للضحك. يصاب الجميع بعدوى الضحك، وأبقى أنا واقفًا ببلادة، لا أفهم سبب الضحك، ولا من يضحك على من!
يضج صدري ببكاء الغربة والتشتت. أبكي، فيرتفع ضحك الآخرين. أحاول أن يسمعوا نشيجي، فيخرج صوتي ضعيفًا. أحاول التحدث، لعل أحدًا يسمعني، لكنهم منشغلون بضحكهم ومتعتهم الغريبة.
أتعجب من غبائي! منذ زمن وأنا أبحث عن متعة الضحك، حتى بلا سبب. وهاأنذا أمام الفرصة، فلماذا لا أضحك معهم؟ سأجد سببًا للضحك لاحقًا دون شك.
أبدأ في الضحك. وأفاجأ بقوة صوتي. أضحك وأضحك. والساحة مليئة بالحافلات. وروحي التي هاجرت صارت نوارس حائرة، تبحث عن مكان... عن زمان... عن مواسم للعشق، هاربة من قفص الغربة الكبير.
وصورتك لا تزال متشبثة بي كظل، كأنك خطيئتي التي لا أستطيع الفكاك منها.
أفكر بجدية في الخلاص. أبحث عن مخرج. خطرت لي فكرة: أن أستدير فجأة لأباغت الظل، وأمسك بالصورة وأمزقها.
ركضت بكل قوتي. أحسست بثقل قدميها المصمتين على ساقي. وبجهد، استطعت أن أتحرر منهما وانطلقت. ألهث، أكاد أموت، لعابي يجف، قواي تضعف، أطرافي تصرخ. سأموت لا محالة.
كلما ركضت، اقترب الظل والتصق بي أكثر. صورتك المرسومة بطلاء ليلي في ظل الشمس، تمسك بي. الظل لصيقي، والصورة تتشبث به لا تريد افتراقه.
يا له من جنون! تعبت من الركض. قواي خارت. قدماي لا تقويان على الاستمرار.
أحاول أن أنقض على الصورة الشبح. أحاول أن أخدع الظل الراكض خلفي. أندس خلف الأشجار الكثيفة في تلك الغابة التي وصلت إليها. ألهث، أنفاسي تتقطع. صدري يتقافز. ضربات قلبي تخرج من جوفي كبركان يغلي على وشك الانفجار.
سقطت منهكًا خلف شجرة، نسيت الظل والصورة. تذكرت بعد أن هدأت فرائصي، فقفقت على الفور أبحث عن الظل. لم أجده!
أعرف أنك تسكنينني منذ الأزل، وأنك كل شيء في حياتي. أنا وحدي أعرف جنية البحر التي خرجت من بحار العشق عبر كل العصور. لم أعلم أنك كنتِ الحب والبغض، الأمان والخوف، الجزاء والعقاب. كنت نشوة المتعة وعذاب العقاب. جمعت كل هذا في هيئة واحدة.
ظللت أهرب حتى هذه اللحظة، ولا تزالين تطاردينني. صورتك معي أينما ذهبت.
وبالفعل... الصورة قد اختفت! شيء غريب! ذهلت. رقصت فرحًا. أغني وأتمشى شاعرًا بالنشوة بعد التحرر. الأشجار تتمايل مع الريح. يا للجمال!
لكن... أين أنا الآن؟ إلى أين أوصلني ركضي؟ من أنا؟ ما اسمي؟ ما تاريخ ميلادي؟ أين قريتي التي أعرفها منذ طفولتي؟
الصورة... وحدها أتذكرها.
نظرت خلفي، فعاد الظل يظهر من جديد... صورتك مرسومة عليه. أحتاجها... أحتاجها لأتذكر من أنا؟ ما اسمي؟ تاريخ ميلادي؟ قريتي التي أعرفها؟
ركضت نحوه. والظل يهرب مني. وكلما أسرعت في الركض، أسرع في الهروب. أسرع أكثر وأكثر. أركض مصممًا على اللحاق به. نركض خلف بعضنا. الظل أمامي وأنا خلفه الآن. قطعنا مسافات طويلة. ظهرت أمامي صخرة ضخمة.
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أقفز فوقها، لأهوي... في أعماق الصورة، داخل الظل... لأشهق شهقي الأخير... وأغترب غربتي الأخيرة... وأعيش العذاب الذي لا ينتهي، والداء الأخير!