الحب مابين السطرين

الحب مابين السطرين

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

مابين السطرين

 

في أحد مقاهي الإسكندرية القديمة، جلست “ليلى” قرب النافذة، تحدّق في الموج المتلاطم تحت سماء رمادية. كوب القهوة أمامها أصبح بارداً، والكتاب الذي بين يديها مفتوح على صفحة لم تقرأها منذ عشر دقائق. كان كل شيء حولها صامتاً إلا صوت البحر، وصوت قلبها الذي كان يخفق بتوترٍ لا تعرف له تفسيراً.


 

مرت خمس سنوات منذ أن رأت “عمر” آخر مرة. خمسة أعوام حملت كل أنواع الانتظار، والحنين، والرسائل التي لم تُرسل، والمكالمات التي كُتبت أرقامها ثم مُسحت. تخرّجت من الجامعة، وبدأت العمل ككاتبة في دار نشر، لكنها لم تنسَ تلك النظرة الأخيرة في عينيه، حين ودّعها في محطة القطار قائلاً: “انتظريني، سأعود.”


 

في البداية، كانت تراسله كل يوم، وتكتب له عن تفاصيلها الصغيرة: ما قرأته، وما طبخته، وكيف كانت الشمس تشرق على غرفتها. لكنه، شيئًا فشيئًا، صار يرد بتأخير، ثم بدأت الردود تَقلّ، حتى انقطعت. لم تَعُد تعرف إن كان لا يزال هناك، في باريس كما أخبرها، أم أن الزمن قد بدّل قلبه.


 

لكن قلبها ظل كما هو. تقلب صفحاته كل يوم، فلا تجد إلا اسمه.


 

في هذا اليوم، وبينما كانت تتظاهر بالقراءة، دخل رجل المقهى. كان يحمل معطفاً رمادياً، وكتاباً بيده. لم تلتفت له في البداية، لكن حين اقترب، سمعت صوته يقول:

“ظننت أنكِ لن تأتي.”


 

رفعت عينيها ببطء. تجمد الزمن.


 

“عمر؟”


 

ابتسم ابتسامة لم ترها منذ سنين، لكنها لم تتغير. تلك الابتسامة التي كانت تطمئنها دائماً، حتى في أقسى اللحظات.


 

جلس أمامها دون أن ينتظر دعوة. ساد صمت خجول، مشحون بكل السنوات التي مرت دون تفسير.


 

“ظننتك نسيتني.” قالتها بصوت مكسور.


 

أخفض نظره قليلاً ثم قال:

“لم أنسكِ لحظة. لكن الحياة… لم تكن سهلة كما توقعت. والدتي مرضت، ثم اضطررت للعمل ليل نهار كي أعتني بها، وانشغلت بين المستشفيات والدوام. كنت أكتب لكِ رسائل، لكني لم أكن أملك الشجاعة لأرسلها وأنا أعرف أني أتركك في ظلمة الأسئلة.”


 

كانت دموعها قد بدأت تنهمر، لكنها لم تقل شيئاً. فقط نظرت إليه كما لو أنها تراه لأول مرة.


 

أخرج من معطفه كتاباً صغيراً، ناولها إياه.


 

“ما هذا؟”


 

“قصتنا. كتبتها وأنا بعيد، كل فصل هو سنة من الانتظار.”


 

فتحت الكتاب بيدين مرتجفتين، لتقرأ الصفحة الأولى:

“إلى ليلى… التي لم أكتب لها يومًا، لكنها كانت في كل ما كتبت.”


 

رفعت نظرها إليه، وهمست: “هل عدت؟”


 

أجاب بثبات: “عدت لأبقى. إن كنتِ ما زلتِ تنتظرينني.”


 

مدّت يدها نحو يده، ثم قالت: “انتظرتك بين كل سطرٍ وسطر. ظننت أنني أكتب لأهرب، لكني كنت أكتب لأبقيك حيًا في قلبي.”


 

في تلك اللحظة، لم يعد صوت البحر مهمًا، ولا لون السماء. كان كل ما يهم هو أن الحب، رغم كل ما حدث، انتصر أخيرًا


image about الحب مابين السطرين

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

1

متابعهم

2

مقالات مشابة
-