تاتاي بن… عامل البناء الذي ربّى دكتوراه
تاتاي بن… عامل البناء الذي ربّى دكتوراه

كان زوج أمي عامل بناء لمدة 25 عامًا، وهو الذي ربّاني حتى أنهيت الدكتوراه. ثم ذُهل أستاذي حين رآه في حفل التخرج.
تلك الليلة، بعد المناقشة، جاء البروفيسور سانتوس ليصافحني ويهنئ عائلتي. وحين وصل إلى “تاتاي بن”، توقف فجأة، نظر إليه عن قرب، وتغيرت ملامحه.
ولدتُ في عائلة غير مكتملة. ما إن تعلمت المشي حتى انفصل والداي. أخذتني أمي، “لورنا”، إلى “نويفا إيسيجا”، منطقة ريفية فقيرة مليئة بحقول الأرز والشمس والرياح والثرثرة. لا أذكر ملامح والدي الحقيقي بوضوح، لكنني أعلم أن سنواتي الأولى كانت تفتقر إلى الكثير—ماديًا ومعنويًا.
عندما كنت في الرابعة، تزوجت أمي من جديد. كان الرجل عامل بناء. جاء إلى حياتها بلا شيء: لا بيت، ولا مال—سوى ظهر نحيل، بشرة محترقة من الشمس، ويدان متشققتان من الأسمنت.
في البداية لم أحبه: كان يغادر باكرًا، يعود متأخرًا، ورائحته دوماً خليط من العرق وغبار البناء. لكنه كان أول من أصلح دراجتي القديمة، وأول من رقّع صنادلي الممزق بصمت. حين كنت أُحدث فوضى، لم يكن يوبخني—بل ينظف المكان. وعندما تعرضت للتنمر في المدرسة، لم يصرخ في وجهي كما كانت تفعل أمي؛ بل جاء بهدوء بدراجته القديمة
ليقلّني. وفي طريق العودة لم يقل سوى جملة واحدة:
— “لن أجبرك أن تناديني أبًا، لكن اعلم أن ’تاتاي‘ سيكون دائمًا خلفك إذا احتجت إليه.”
كنت صامتًا. لكن منذ ذلك اليوم صرت أناديه “تاتاي”.
في طفولتي، كانت ذكرياتي عن “تاتاي بن” دراجة صدئة، وزيّ عمل مغطى بالغبار، وليالٍ يعود فيها متأخرًا وعيناه غائرتان من التعب ويداه ما تزالان ملطختين بالجير والمونة. مهما بلغ إرهاقه، لم ينسَ أن يسألني:
— “كيف كان يومك في المدرسة؟”
لم يكن متعلمًا تعليمًا عاليًا، لم يستطع شرح المعادلات الصعبة أو النصوص المعقدة، لكنه كان دائمًا يؤكد:
— “قد لا تكون الأول في الصف، لكن عليك أن تجتهد. أينما ذهبت، سيحترمك الناس بعلمك.”
أمي كانت فلاحة، وأبي عامل بناء. كنا نعيش بدخل ضئيل. كنت طالبًا مجتهدًا، لكنني فهمت وضعنا، فلم أجرؤ على الحلم الكبير. حين اجتزت امتحان القبول بجامعة في مانيلا، بكت أمي؛ بينما جلس “تاتاي” على الشرفة، ينفث دخان سيجارة رخيصة. وفي اليوم التالي باع دراجته النــ . ــارية الوحيدة، وبمساعدة مدخرات جدتي، تمكن من إرسالي إلى الجامعة.
يوم أوصلني إلى المدينة، ارتدى “تاتاي” قبعة بيسبول قديمة، وقميصًا مجعدًا، وظهره مبتل
بالعرق، ومع ذلك حمل صندوق “هدايا من البلدة”: بضع كيلوغرامات من الأرز، جرة سمك مجفف، وعدة أكياس من الفول السوداني المحمّص. قبل أن يغادر السكن الجامعي، نظر إليّ وقال:
— “ابذل جهدك يا ولدي. ادرس جيدًا.”
لم أبكِ. لكن حين فتحت غدائي الملفوف بأوراق الموز، وجدت أسفل الطعام ورقة صغيرة مطوية أربع مرات، مكتوب فيها:
— “تاتاي لا يفهم ما تدرسه، لكن أيًا كان ما تدرسه، تاتاي سيعمل لأجله. لا تقلق.”
درست أربع سنوات في الجامعة، ثم واصلت الدراسات العليا. واصل “تاتاي” العمل. صارت يداه أخشن، وظهره أكثر انحناء. وعندما عدت يومًا للزيارة، رأيته جالسًا عند قاعدة السقالة، يلهث بعد يوم شاق من رفع الأحمال، فانكسر قلبي. قلت له أن يرتاح، لكنه لوّح بيده:
— “تاتاي ما زال قادرًا. حين أشعر بالتعب، أفكر: أنا أُربي دكتوراه—فأشعر بالفخر.”
ابتسمت، ولم أجرؤ أن أخبره أن الدكتوراه تعني سنوات أطول من التضحيــ .ــة. لكنه كان السبب الذي جعلني لا أستسلم أبدًا.
في يوم مناقشة رسالتي للدكتوراه في جامعة الفلبين – ديلمان، توسلت لـ”تاتاي” طويلًا حتى وافق على الحضور. استعار بدلة من ابن عمه، ارتدى حذاءً أضيق من مقاسه بدرجة، واشترى قبعة جديدة
من سوق الحي. جلس في الصف الأخير من القاعة، يحاول الجلوس باستقامة، عيناه مثبتتان عليّ.
بعد المناقشة، جاء البروفيسور سانتوس ليصافحني ويهنئ عائلتي. وعندما وصل إلى “تاتاي”، توقف فجأة، نظر إليه عن قرب، وابتسم:
— “أنت ’مانغ بن‘، أليس كذلك؟ عندما كنت طفلًا، كان منزلي بجوار موقع البناء في كيزون سيتي حيث عملت. ما زلت أذكر حين حملتَ رجلًا مصابًا من على السقالة، رغم أنك كنت مجروحًا أنت أيضًا
. لقد أنقذت حياته. ذلك الرجل كان عمي.”
ساد الصمت القاعة. ولحظةً واحدة، تلاشت الألقاب والشهادات والدرجات. لم يكن في المركز أنا، بل الرجل الذي حملني، ليس على كتفيه فقط، بل على تضحياته.
قد يرى العالم “تاتاي” مجرد عامل بناء. لكن بالنسبة لي، وللكثيرين الذين مرّوا في طريقه، كان بانيًا لأكثر من مجرد بيوت. لقد بنى الأمان. وبنى الكرامة. وبنى المستقبل.
شهادة الدكتوراه قد تحمل اسمي، لكن كل حرف فيها منقوش بعرق سال من جبينه، وبالشقوق التي حفرت في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها مرهقًا ومع ذلك سألني:
“كيف كان يومك في المدرسة؟”
الآباء لا يُعرفون بالدم، بل بالحب. وأحيانًا، يكون الرجل الذي تفوح منه رائحة الإسمنت والغبار،
هو نفسه الذي يحملنا طوال الطريق إلى أحلامن