ليلةٌ تغيّر وجه الحارة

ليلةٌ تغيّر وجه الحارة

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

ليلةٌ تغيّر وجه الحارة

image about ليلةٌ تغيّر وجه الحارة

 

 

 

 

في مساءٍ خريفي هادئ، كانت حارة “الزقاق الجديد” تغرق في ضوء المصابيح الصفراء، وتتنفس دفء الحياة كما اعتادت كل ليلة. البيوت متلاصقة كالأسرار القديمة، والقلوب مفتوحة مثل نوافذ لا تُغلق. وسط هذه الحارة كان يعيش عمّ سعيد، الرجل الذي عرفه الجميع بابتسامته التي تسبق كلامه، رغم أن جيبه لم يعرف طريق الامتلاء يومًا.

في تلك الليلة، جلس عمّ سعيد أمام دكانه الصغير، يراقب حركة الناس. كان يشعر بشيء غريب يضغط على قلبه؛ كأنه ثقل السنوات التي قضاها مجاهدًا ليحافظ على لقمة عيشه. نظر إلى السماء وقال في سرّه:
“هل يظل الإنسان يجري حتى آخر العمر دون أن يدرك إلى أين يسير؟”

قطع أفكاره صوت طفل صغير يبكي عند زاوية الحارة. كان مروان، ابن الجارة أمّ هناء. اقترب منه عمّ سعيد وربت على كتفه:
— “مالك يا بُني؟”
— “أضعت نقودي… كنت سأشتري دواءً لأمي.”
ارتجف صوت الصغير وهو يشرح، وكأن العالم كلّه يضغط على صدره الصغير.

جلس عمّ سعيد على ركبتيه، وأخذ يبحث مع الطفل في كل زاوية. دقائق طويلة مرّت، بلا نتيجة. دموع مروان سقطت على كفّه الصغير، فكأنها خيط سحب قلب عمّ سعيد من مكانه.

مدّ العمّ يده إلى جيبه. لم يكن فيه إلا بضع عملات بالكاد تكفي لشراء خبز عشاءه. نظر إلى الطفل، ثم إلى السماء، ثم ابتسم تلك الابتسامة التي يعرفها الجميع:
— “يا مروان… خذ. اشتري الدواء لأمّك.”

وقف الطفل مذهولًا:
— “بس يا عمّ سعيد… ده رزقك!”
— “ورزقي على الله. المهم إن أمّك تقوم بالسلامة.”

ركض مروان نحو الصيدلية، بينما عاد عمّ سعيد إلى دكانه خفيف الروح، كأنه تخلّص من حمل لا يراه غير الله.

لكن الحارة لم تنم تلك الليلة.

عند الفجر، استيقظ الناس على صوتٍ لم يعتادوه: صوت بكاء شديد في بيت عمّ سعيد. اجتمع الجيران، ودخلوا البيت ليجدوه جالسًا على الأرض، يضغط على صدره بيد ويستند بالأخرى إلى الحائط. قال لهم بصوت متقطع:
— “خير… خير يا جماعة… دا وجع بيمر.”

استدعى الجميع الإسعاف، لكن الوقت لم يسعفهم. رحل عمّ سعيد قبل أن يصل الطبيب، تاركًا خلفه ريحًا من الطيبة تمسّ كل قلب في الحارة.

في اليوم التالي، حين عاد مروان ومعه دواء أمه وسؤال كبير في صدره، قال له الناس الخبر. وقف الطفل صامتًا، ثم جلس على عتبة الدكان وبكى كما لم يبكِ من قبل. اقترب منه شيخ الحارة، ووضع يده على رأسه وقال:
— “يا بُني… عمّ سعيد مات وهو يعمل خيرًا. وربّنا لا يضيع أجر المحسنين.”

ومنذ ذلك اليوم، تحوّل دكان عمّ سعيد إلى مكتبة صغيرة للفقراء. وضع فيها الناس كتبًا وحكايات، وأسموها:
“مكتبة سعيد… للخير الذي لا يموت.”

وفي كل مساء، كان الأطفال يحدّثون بعضهم عن تلك الليلة التي غيّرت وجه الحارة، وجعلتها تعرف أن اليد التي تعطي لا تموت، بل تبقى أثرًا في القلوب.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
fazlu rahman تقييم 0 من 5.
المقالات

1

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.