ظل فوق المدينة الفصل الاول

الفصل 1 — الظل الأول
لم يكن أحد يتوقع أن تبدأ نهاية المدينة بلحظة صمت
في الثالثة فجراً، انطفأت الأنوار دفعة واحدة، ليس تدريجياً كما يحدث في الأعطال العادية، بل وكأن أحدهم ضغط على زرّ ضخم محا الشمس التي فوق رؤوسهم
الغريب لم يكن الظلام… بل الصوت الذي تلاه
صوت أشبه بهمسة، لكن وقعها كان كأن المدينة كلها ترددت داخلها تلك الهمسة الوحيدة
يوسف كان يقف على سطح مبنى عالٍ، يحاول أن يلتقط بعض الهواء البارد بعد يومٍ طويل
لكن الظلام الذي هبط على المدينة لم يكن عادياً؛ كان كثيفاً، متماسكاً، كأنه شيء حيّ
كان يستطيع أن يرى الأنوار البعيدة على أطراف المدينة، لكن قلبها أصبح كحفرة سوداء. أخذ نفساً عميقاً، وحاول أن يفهم ما يحدث
ثم حدث ما جعله يتراجع خطوة كاملة
كان هناك شيء يتحرّك فوق أسطح المباني المقابلة
لم يكن شخصاً. لم يكن حيواناً
كان أكبر من ذلك… وأسرع من أن تتبعه العين
ظلّ طويل، يمتد ثم ينقبض، يقفز من سطح إلى آخر بخفة مخلوق يعرف هذه المدينة أكثر من سكانها
في البداية ظن يوسف أنه يتخيّل
لكن الظلّ توقف فجأة… ونظر نحوه
نعم، كان ينظر
عرف ذلك رغم أنه لا يملك وجهاً
هناك لحظات يشعر فيها الإنسان أن شيئاً يراقبه، وهذه كانت إحدى تلك اللحظات
شعر يوسف ببرودة حادة تجري على طول عموده الفقري
ثم تحرّك الظل، ليس مبتعداً… بل مقترباً
قفز من مبنى إلى آخر، وكل قفزة كانت تقرّبه أكثر
يوسف تراجع خطوتين وهو يبحث بيده عن باب السطح
لكن الباب كان عالقاً
في الأسفل، بدأت أصوات تنطلق من الشوارع—صراخ، ارتطام، وشيء يشبه صفيراً طويلاً
ارتفع الظل فوق حافة المبنى المقابل، ثم اختفى في الهواء… كأنه تبخر
يوسف ظل واقفا
لثوانٍ لم يستطع أن يفكر
ثم انفتح باب السطح من تلقاء نفسه، وكأن أحداً كان يقف خلفه
"يوسف؟"
كان صوت جارته "ليان" التي تسكن في الشقة المقابلة
"المدينة كلها انطفأت… الناس مرعوبة. تعال ننزل."
نظر إليها ثم إلى السماء التي ما زالت تخفي ذلك الظل
"شفت شي فوق الأسطح…" قال بصوت متقطع
لكن ليان هزّت رأسها:
"مش وقت تخوّفني… انزل بس."
عندما وصلوا إلى الشارع، شعر يوسف بشيء مختلف تماماً
المدينة التي يعرفها لم تكن كما هي
هناك أصوات لكنه لا يرى صاحبيها
هناك حركة بلا شكل
والأغرب من ذلك، كانت الحيوانات اختفت
لا كلاب ضالة، لا قطط، لا طيور على الأسلاك
“يوسف… عندك إحساس إنه في شي غلط غلط؟” سألت ليان.
قبل أن يجيب، سمعا صراخاً من نهاية الشارع
ركضا نحو المصدر، فوجدوا امرأة تبكي وهي تضرب باب بيتها
“ابني! ابني كان واقف جنبي قبل دقيقة! اختفى!”
يوسف شعر بأن قلبه يهبط إلى قدميه
اختفاء… بعد ظهور الظل؟
حاول تهدئة المرأة، لكنها لم تكن تسمع أحداً
الناس بدأوا يتجمعون حول البيت، بعضهم يحمل هواتف لا تعمل، البعض الآخر يصرخ، آخرون يركضون نحو سياراتهم
:ليان همست
"يوسف… فيني حسّ إن الشي اللي شفته فوق السطح… إله علاقة."
قبل أن يجيب، سقطت لوح خشبي من نافذة فوقهم، كأنه رُمي عمداً.
...التفت يوسف بسرعة
ورأى شيئاً يتحرك داخل الظلام خلف المبنى
:لم يره بوضوح، فقط حركة سريعة، لكن إحساسه كان واضحاً
الظل ما زال قريباً
بينما كانوا يحاولون الابتعاد، شعر يوسف بشيء يلمس كتفه
...التفت بسرعة
ولا أحد خلفه
لكن على الأرض خلفه، كان هناك أثر—بصمة طويلة، عميقة، ليست بشرية إطلاقاً
:ليان نظرت إليها ثم إليه
"شو… هاد؟"
يوسف لم يستطع الإجابة
هو نفسه لم يفهم
عادا إلى الشارع الرئيسي، وإذا بالشرطة قد وصلت
لكن الغريب؟
لم يتصرفوا كأن شيئاً خطيراً يحدث
تحدثوا مع الناس بسرعة، كتبوا ملاحظات مختصرة، ثم طلبوا من الجميع الدخول إلى بيوتهم
اقترب يوسف من أحد الضباط
"سامحك الله… في طفل مختفي. وانتو تتصرفوا كأنه عطل كهرباء؟"
الضابط نظر إليه نظرة باردة
"ارجع بيتك… وما تدخل بشي ما إلك فيه."
...كان في نظرة الضابط شيء أكبر من البرود
شيء يُخفي خوفاً
عندما عاد يوسف إلى منزله، أغلق الباب بإحكام
جلس على الأرض وحاول أن يستجمع أفكاره
لكن قبل أن يهدأ، سمع صوتاً يأتي من النافذة
ليس نقراً
ليس هبوب هواء
كان أشبه بصوت أنفاس
...اقترب ببطء
فتح الستارة بحذر…
ولم ير شيئاً
لكن على الزجاج من الخارج، كان هناك أثر يد
طويلة… جداً
تراجع يوسف بسرعة، وبدأت أنفاسه تتسارع
ثم سمع شيئاً آخر—مطرقة خفيفة على باب شقته
لم يكن يجرؤ على الاقتراب، لكن الخطوات ازداد صوتها
...قرّب أذنه من الباب
:وسمع همسة، هادئة جداً
“يوسف… شفتني.”
تجمد جسده بالكامل
الهمسة لم تكن من صوت بشري
...ولم يكن صوتاً يسمع من الخارج
بل من داخل الباب نفسه