
ظلّ التاج العلويّ
✨ الفصل الأول: بزوغ الفجر من درعة
في عمق الجنوب المغربي، حيثُ تسير الرمال بلا نهاية وتغفو النخيل في ظل الجبال، تقع قريةٌ صغيرة تُدعى تازروالت، يكسوها الصمت إلا من تراتيل المساء وخرير ماءٍ يتسلل من عينٍ قديمة.
في إحدى ليالي عام 1635م، ولد حمّاد بن عبد الحق، طفل نحيل الجسد، واسع العينين، يحمل في ملامحه سكون الصحراء ودهشة العالم. والده فقيهٌ يُعلِّم أبناء القرية القرآن وعلوم اللغة، ووالدته من نسلٍ عريق في قبائل درعة، متشبعة بالحكمة والصبر.
كانت البلاد آنذاك غارقة في فوضى، تُمزقها الحروب بين القبائل، ويتهددها التدخل الأجنبي، بينما ينتظر الناس مخلِّصًا يوحّد الأرض وينشر العدل. وفي تلك الليلة بالذات، اجتمع شيوخ القبيلة في زاوية القرية يتداولون أمرًا خطيرًا:
الشرفاء العلويون، القادمون من تافيلالت، بدأوا يدعون للوحدة تحت راية الإسلام والعدل.
قال أحد الشيوخ بصوتٍ متهدّج:
> "إنهم من نسل النبي، ولهم كلمة مسموعة… لعل فيهم الأمل بعد أن أنهكتنا السيوف."
لم يكن حمّاد يدري أن ميلاده في تلك الليلة سيكون بداية مسار طويل، حيث تتقاطع خطواته مع قدَرٍ أكبر منه، يقوده من رمال درعة إلى ظلال القصور، ومن خيمةٍ في الجنوب إلى أروقة الحكم في الشمال.
وها هو الفجر يلوح من بعيد… فجرٌ لا يشبه ما سبق.
✨ الفصل الثاني: رسول الشريف
مرّت أعوام، وكبر حمّاد في كنف والده، ينهل من علوم الدين واللغة، ويتعلم فنون الصبر والعمل بين أحضان الواحة. ورغم بساطة الحياة، كان هناك في عينيه شيءٌ لا يُشبه من حوله؛ رغبة في فهم ما وراء الجبال، شوق لما تحمله الرياح من أخبارٍ عن المدن البعيدة والقبائل المتناحرة.
وذات مساء، بينما كانت الشمس تُقبّل رؤوس النخيل إيذانًا بالمغيب، وصل إلى القرية رجلٌ غريب، ممتطيًا فرسًا نحيلًا، ثيابه يغمرها الغبار، ووجهه يشع بالتصميم. نزل في صمت، ثم اتّجه مباشرة إلى زاوية الفقيه عبد الحق، والد حمّاد.
دخل الغريب وقال بصوت خافت لكنه واثق:
> "السلام عليكم… أنا رسول من عند الشريف محمد بن علي الشريف، أمير تافيلالت، أُبلّغكم دعوة للوحدة والجهاد ضد الفتنة والفرقة."
ساد الصمت في المجلس، ثم نهض الفقيه وقال:
> "وماذا يريد من أهل درعة؟"
أجاب الرجل:
> "يريد رجالًا ينهضون معه لبناء دولة العدل، بعد أن تقطعت أوصال المغرب، وتسلط الجشع على الناس."
تسلل الفضول إلى قلب حمّاد، واختبأ خلف الستار يتنصّت. كان الصوت مختلفًا، والنبرة تحمل شيئًا من الأمل والخطر معًا.
في تلك الليلة، لم ينم حمّاد كعادته… كانت كلمات "الوحدة، الدولة، الشريف" تتردّد في أذنه كنداءٍ خفيّ، يدعوه إلى ما هو أبعد من حدود قريته الصغيرة.
ولم يكن يعلم أن مصيره قد ارتبط بتلك الكلمات إلى الأبد.
✨ الفصل الثالث: نداء الأرض
في صباح اليوم التالي، كانت الشمس تنبعث من خلف جبال درعة بلونٍ مائل إلى الذهب، كأنها تُبشّر بيومٍ لا يُشبه ما سبقه. جلس حمّاد قرب النبع، شارد الفكر، يُقلب الحصى بيديه، وصوت رسول الشريف لا يزال يتردد في أذنه. أحسّ كأن الأرض ذاتها تُنادِيه، كأن جذوره في هذه الرمال تدفعه إلى التحرك نحو مصير مجهول.
وفي المساء، دعا الفقيه عبد الحق ابنه وقال له بصوتٍ مهيب:
> "يا حمّاد، لقد كبرت، وآن أوان الرحلة… الشريف طلبني للعلم والمشورة، لكنني أراك أحقّ بالذهاب. ستسافر إلى سجلماسة، وهناك تبدأ رسالتك."
فُوجئ حمّاد، لكن قلبه امتلأ دفئًا. لم يكن خائفًا، بل شعر بشيء من القداسة في هذا النداء، كأنه وُلد من أجله.
في فجر اليوم الموالي، جهّز نفسه. ودّع أمه التي لم تنطق إلا دعاءً بالسلامة، ووالده الذي أوصاه:
> "احمل القرآن في قلبك، ولا تنسَ أن الرجال مواقف، لا كلمات."
ركب حمّاد دابته وسلك الطريق نحو سجلماسة، في رحلة ستغير مجرى حياته. عبر الوديان والسهول، واستقبله الجفاف حينًا، والريح حينًا آخر، لكن صوته الداخلي كان أقوى من كل تعب.
وفي آخر الليل، وقف على مرتفعٍ يُطل على أضواء سجلماسة من بعيد، وهمس:
> "هل هذا ما كنتُ أبحث عنه؟ أم أن القدر ما زال يُخفي المزيد؟"
لم يكن يدري أن أول خطوة في طريق المجد… قد بدأت بالفعل.
✨ الفصل الرابع: شيوخ النار والكلمة
حين دخل حمّاد مدينة سجلماسة، أحس كأنه ولج عالماً آخر. كانت المدينة نابضة بالحركة، تتداخل فيها روائح التوابل، وأصوات المؤذنين، وهمسات التجار. لكنّ خلف هذا الصخب، كانت هناك همسات أعمق: حديث عن دعوة العلويين، وعن رجالٍ يُعدّون لأمرٍ جلل.
قادته قدماه إلى الزاوية الناصرية، حيث يجتمع أهل العلم والدين، يتدارسون أوضاع البلاد ويؤيدون قيام دولة توحِّد الشتات. وهناك، التقى بثلاثة من كبار الشيوخ: الشيخ أبي زيد الناصري، والشيخ عبد الجليل التلمساني، والشيخ إدريس بن العباس.
قال له أحدهم بعد أن علم من يكون:
> "إن أباك رجل علم، وقد أحسن صنعًا بإرسالك. إن المرحلة القادمة تحتاج إلى رجال يملكون السيف… ولكن قبل السيف، لا بد أن يحملوا الفكر."
جلس حمّاد بينهم يستمع، يدوّن، ويسأل. تعلم أن النضال لا يكون دائمًا في ساحات القتال، بل قد يبدأ بكلمةٍ صادقة، أو بفكرة تُحرّك الأمة من سُباتها. تعلم أن الدولة لا تُبنى بالعاطفة فقط، بل بالعلم، بالشريعة، وبالعدل.
وفي ليلة مقمرة، اقترب منه الشيخ الناصري وهمس:
> "ستقابل قريبًا الشريف محمد بن علي الشريف… كن صادقًا، فالصادقون وحدهم من يصمدون أمام نار السياسة وفتنة الملك."
بدأ حمّاد يفهم الآن… أن طريقه لن يكون سهلاً، وأن عليه أن يجتاز نيران الكلمة قبل أن يُمسك بزمام القوة.
✨ الفصل الخامس: فاطمة
في أحد دروب سجلماسة الملتوية، وبينما كان حمّاد يسير متأمّلًا بعد يومٍ من الدروس والنقاشات، اصطدم بصوتٍ ناعم يخرج من داخل مكتبة صغيرة في ركن الزقاق. صوت فتاة تتلو الشعر بصوتٍ رخيمٍ، تغنّي أبياتًا من ابن زيدون كأنها ترسم بها على الهواء نقشًا من نور.
توقّف عند الباب، وسأل صاحب المكتبة العجوز:
> "من هذه؟"
ابتسم الشيخ، وأجابه:
> "تلك فاطمة بنت الحسن، حفيدة قاضٍ عظيم، تحفظ الشعر والحديث، وتخطّ بالحبر كما يخطّ الفرسان بالسيوف."
لم يكن حمّاد يومًا مولعًا بالشعر، لكن فاطمة كانت مختلفة. كانت تجلس بين الكتب كأميرة في مجلس علم، ملامحها تجمع بين الوقار والجمال، وعيناها تُشعّان ذكاءً لم يعتده في نساء قريته.
مرّت أيام، وكلّما التقى بها صدفة في الزاوية أو السوق، تبادلا كلمات قصيرة، تحمل من المعاني ما تعجز عنه الخُطب. كانت تُحدّثه عن فكر ابن رشد، وتُناقشه في سيرة يوسف بن تاشفين، وتسأله عن دعوة العلويين، لا كفضول عابر، بل كمشاركة عميقة في مشروع نهضة.
وفي ليلةٍ صافية، جلست بجانبه على مقعدٍ حجريٍّ قرب النهر، وقالت له بهدوء:
> "لا تنسَ يا حمّاد… أن بناء الدولة لا يكتمل إن غابت عنه روح الحب، لأن الوطن لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بالقلوب التي تؤمن به."
شعر لحظتها أن وجودها ليس عبثًا… بل كأن القدر أرسلها لترافقه، لا كظِلٍّ، بل كنبضٍ يُبقيه حيًّا.
✨ الفصل السادس: فتنة القبائل
لم تكد دعوة الشريف محمد بن علي تنتشر في نواحي سجلماسة وتافيلالت، حتى بدأت القبائل المتناحرة تتحرك، بعضها أبدى ولاءه طمعًا في الاستقرار، والبعض الآخر رأى في ذلك تهديدًا مباشرًا لنفوذه وسلطانه.
في إحدى الليالي العاصفة، دخل شيخ قبيلة بني وراين على الشريف برسالة شديدة اللهجة من قبيلة أولاد زيان، يقول فيها زعيمهم:
> "لا دولة لنا إلا سيوفنا، ولا راية تُرفع فوق رايتنا!"
توتّرت الأجواء، وبدأت إشارات الحرب تلوح في الأفق. كان لا بد من إرسال موفدين إلى القبائل لتهدئة النفوس، وكان اسم حمّاد أول من خُطّ في الورقة.
قال له الشريف بصوت حازم:
> "ستذهب إلى قبيلة أولاد زيان… لا كفارس، بل كعاقل. إن نجحت، جنّبتنا سفك الدماء، وإن فشلت، فستكون أول شهيد في سبيل هذا الوطن."
انطلق حمّاد في مهمة محفوفة بالمخاطر، ترافقه كلمة فاطمة، "الوطن لا يُبنى بالقوة وحدها"، وكلمة أبيه "الرجال مواقف". اجتمع بشيوخ القبيلة وسط أجواء مشحونة، وبدأ الحديث كما يبدأ الرماح… بحدة.
لكنّه لم يكن وحده، كان يحمل من العلم ما يُقنع، ومن الحكمة ما يُسكن النفوس. تحدّث عن مآسي الفرقة، وعن أطماع الخارج، وعن مستقبلٍ لن يُبنى إلا تحت لواء موحّد.
وفي نهاية المجلس، وقف كبير أولاد زيان وقال:
> "سنُمهلكم… ولكن اعلموا، إن خانت رايتكم العدل، سنكون أول من يُسقطها."
عاد حمّاد إلى سجلماسة، لم يحمل نصرًا حاسمًا، لكنه منع الدم، ولو إلى حين.
✨ الفصل السابع: الطريق إلى تافيلالت
ما إن عاد حمّاد من مهمته القبلية حتى استدعاه الشريف محمد بن علي، وأخبره بنبرةٍ مليئة بالثقة:
> "لقد أثبتّ أنك أهل للمسؤولية… حان الوقت لتكون في قلب الدعوة، في تافيلالت، حيث تُنسج خيوط الدولة المقبلة."
كانت تافيلالت آنذاك القلب النابض للمشروع العلوي، وحاضنة النسب الشريف. لم تكن مجرّد واحة عامرة، بل كانت معقلاً للعلم والدين، ومقرًا لتجمّع السادة الأشراف والدعاة والفرسان.
شدّ حمّاد رحاله، وفي صحبته عدد من الموفدين، وسلك طريق القوافل، عبر الجبال والوديان، حيث كانت الطبيعة تشهد على مشقة المسير، كأنها تختبر عزيمة كل من يسعى لبناء المجد.
وفي الطريق، جلس إلى شيخ كبير من أهل فجيج، سافر معهم بالصدفة، وسأله عن مقصده. أجابه الشيخ:
> "أنا لا أذهب إلى مكان، بل أذهب إلى أمل. هذه الأرض تستحق من يُعيد لها مجدها… ولعلّكم أنتم من سيحقق ذلك."
وصل حمّاد إلى تافيلالت مع أولى خيوط الفجر، فرأى القباب البيضاء تلمع تحت ضوء الشمس، والمساجد تعجّ بالطلبة، والأسواق تضج بالحياة… لكنّ خلف هذا الجمال، كان هناك حراك هادئ، تخطيطٌ، تحالفات، وترقّب كبير للحظة الحسم.
في قلب المدينة، استقبله الشريف العلوي بنفسه، وبنظرة فاحصة قال له:
> "لقد وصلتَ يا حمّاد… فهل أنت مستعد لتبدأ؟"
✨ الفصل الثامن: البيعة
في جوف قصرٍ مهيبٍ في قلب تافيلالت، اجتمع جمعٌ غفير من السادة الأشراف، وزعماء القبائل، والفقهاء، وكل من يهمّه أمر الوحدة ورفعة الدين. أضواء المشاعل تلتهم الظلام، والهمسات تعلو، تنتظر حدثًا تاريخيًا.
وقف الشريف محمد بن علي الشريف، بقامةٍ تفيض وقارًا وعزّةً، وعيناه تلمعان بحكمة سنوات المعاناة والجهد. نادى بصوتٍ جهوري:
> "أيها الأحباب، قد مضى زمن الفرقة، وحان وقت الوحدة. حان وقت البيعة على كتاب الله وسنة رسوله، على رفع راية العدل، وعلى كفالة كرامة الناس."
تقدّم حمّاد، الذي كان قد صار رجلاً يحمل في قلبه قوة الأرض وحكمة أهل العلم، ووضع يده على المصحف الشريف، بجانب الشريف وأعيان القبائل، وأقسم:
> "أقسم بالله العظيم أن أكون وفياً لراية العلويين، مدافعاً عن الدين والوطن، ملتزماً بالعدل بين الناس."
صدى البيعة عمّ القاعة، وأضاءت الوجوه بالرجاء. كانت هذه اللحظة نقطة التحول، إعلان بداية عهد جديد، عهداً يحلم به كل المغاربة.
لكن حمّاد لم يغفل أن الطريق أمامه محفوف بالمخاطر، وأنه بيده يحمل مسؤولية كبيرة. في قلبه، ترددت كلمات فاطمة:
> "لا تنسَ أن حبّ الوطن يحتاج إلى شجاعة القلب، وصبر النفس."
✨ الفصل التاسع: الفارس والراية
لم يمضِ وقت طويل بعد البيعة، حتى عُيّن حمّاد قائداً لكتائبٍ صغيرة، تكوّنت من شباب القبائل الذين آمنوا بدعوة العلويين. كانت مهمته صعبة، فهو لا يحمل فقط السيف، بل يحمل أمل قومه في الوحدة والاستقرار.
حمل حمّاد الراية العلوية لأول مرة، وكانت قطعة القماش تتراقص في نسيم الصحراء كأنها تُعلن ميلاد عهد جديد. شعر بثقل المسؤولية، لكنه كان يرى في عيون رفاقه نفس العزم الذي يملأ قلبه.
في معسكرهم الصغير تحت سماء الصحراء، تلقى تدريبات صارمة على الفروسية وفنون الحرب، لكنّه تعلم أيضًا أن الشجاعة لا تكمن فقط في القتال، بل في حماية الضعفاء، وفهم متطلبات السياسة.
جاءته رسالة من فاطمة تحمل كلمات تشجعه:
> "إن الراية ليست مجرد قطعة قماش، بل وعدٌ بين الأجيال. حافظ عليها، كما تحافظ على قلبك."
في أول معركة له، وقفت قبائل متفرقة تُشكّل تهديدًا للسلام القادم. تقدّم حمّاد بشجاعة، قاد فرسانه بمهارة، وحاصر أعداء الوحدة، حاملاً راية العلويين عالياً. كانت معركةً شرسة، لكنها لم تكن سوى البداية.
وبينما كان الغبار يهدأ، نظر حمّاد نحو السماء، مدركًا أن الطريق طويل، وأن النصر الحقيقي يكمن في وحدة القلوب قبل وحدة الأراضي.
✨ الفصل العاشر: الدم والذهب
تحت شمس سجلماسة الحارقة، تجمّع الأعداء من كل صوب، طامعين في كسر شوكة العلويين، والسيطرة على مفاصل الأرض الغنية بالذهب والموارد. كان الحصار قادمًا، والصراع على أشده.
وقف حمّاد بين رجاله، يراقب الأفق، يستشعر ثقل المسؤولية التي على عاتقه. فقد كان يعلم أن هذه المعركة ليست مجرد صراعٍ على أرض، بل معركة من أجل مستقبل وطن بأكمله.
هزّته أنباء خيانة بعض القبائل التي كانت تدّعي الولاء، فكان عليه أن يوازن بين الحذر والثقة. ألقى خطابًا ملتهبًا، قال فيه:
> "دماؤنا لا تُسفك عبثًا، وذهبنا لن يُباع للفرقة. نحن نُقاتل من أجل الوحدة، من أجل أجيالٍ ستأتي بعدنا."
اندلعت المعركة، وامتزج الدم بالتراب، وتحول الذهب إلى نور على أكمام المحاربين. قاتل حمّاد بقلب لا يعرف الخوف، يقود رجاله كالسهم، يثبّت الراية، ويزرع الأمل في نفوس من حوله.
بعد ساعات من القتال العنيف، تحقّق الانتصار، لكن الثمن كان باهظًا، فقد فقد حمّاد رفاقًا كُثرًا. وفي خضم النصر، فهم أن بناء الدولة لن يكون إلا بتضحيات عظيمة، وأن دماء الأبطال ستروى بها أرض المغرب.
✨ الفصل الحادي عشر: بين فاس ومراكش
بعد انتصار سجلماسة، بدأ نشاط العلويين يتوسع نحو الشمال، حيث تقع مدينتا فاس ومراكش، مركزا السلطة والتجارة. كانت المدينتان تعجّان بالمؤامرات والولاءات المتغيرة، وكلاهما يحملان إرثًا عريقًا وتاريخًا معقدًا.
سافر حمّاد رفقة وفد من العلويين إلى فاس، حيث استقبله رجال المدينة بحذر، وأبدوا ترقّبًا لما سيحمله القادمون من الجنوب. في الأسواق الضخمة، وبين أروقة المساجد، دار الحديث عن أهمية توحيد الصفوف، لكن الطموحات الشخصية كانت عقبة كبرى.
توجه بعد ذلك إلى مراكش، المدينة الحمراء، التي كانت تعيش حالة من الصراع بين القبائل المحلية والحكام الجدد. هناك، التقى بأعيان المدينة، وحاول إقناعهم بأن دولة العلويين ستكون ملجأً للعدل والاستقرار.
واجه حمّاد صعوبات كثيرة، من الخيانات السياسية إلى محاولات الانقلاب، لكنه لم يتراجع. كانت رسالته واضحة:
> "الوحدة ليست رفاهية، بل ضرورة، وإن غابت، ستضيع الأرض كلها."
خلال رحلته بين المدينتين، تعرف على أصدقاء جدد، وأعداء خفيين، وعلم أن حكم المغرب لن يكون إلا بمن يجمع بين الحكمة والقوة.
✨ الفصل الثاني عشر: ضباب الشمال
في الشمال، حيث تتعانق جبال الريف مع البحر الأبيض المتوسط، كان ضباب السياسة يكتنف المشهد. لا يهدأ النزاع بين السلاطين والعشائر، وكان النفوذ العثماني يتسلل كظل غامض يحاول فرض سيطرته.
وصلت أنباء عن تحركاتٍ عسكرية لعشائرٍ موالية للدولة العثمانية، وتزايد المؤامرات ضد الدولة العلوية الوليدة. كان على حمّاد أن يتعامل مع هذه التحديات بحذرٍ وحكمة، فالمعركة لم تكن فقط بالسيوف، بل بالحُسن السياسي وبناء التحالفات.
جمع حمّاد مجلسه في فاس، وقال:
> "العدو لا يظهر فقط في ساحات القتال، بل في الكلمات المسمومة وفي التحالفات الخفية. علينا أن نكون أكثر يقظةً من أي وقت مضى."
سافر بين القرى والقصبات، يبني جسور الثقة، ويخفف من توتر القبائل. كانت طريقه محفوفة بالمخاطر، وبينما يعاني من ضباب الشمال، كان يتذكر كلمات الشيخ التهامي:
> "الصبر حكمةُ القائد، والرؤية طريق النصر."
استطاع حمّاد، بخبرته المتزايدة، أن يضع خطة لاستباق الهجمات، ويُرسّخ دعائم الدولة، رغم كل العواصف التي تعصف بالبلاد.
✨ الفصل الثالث عشر: في محراب فاطمة
في زوايا فاس العتيقة، حيث تتداخل ألوان الأسواق مع عبق التاريخ، كانت فاطمة بنت الحسن تجلس في محرابها الصغير، تغوص في مطالعة الكتب المقدسة وكتب الفقه. لم تكن مجرد امرأة عادية، بل كانت نورًا ينير طريق العديد من العلماء والدعاة.
التقى بها حمّاد في إحدى الأمسيات، بعد اجتماع طويل مع شيوخ المدينة. تحدثا عن الأحلام، عن الوطن، عن ضرورة أن تتوحد القلوب قبل الأرض. قالت له:
> "يا حمّاد، لا تنسَ أن الحكمة أحيانًا تُولد في صمت الكتب، وليست في هدير السيوف."
كان حديثها يلهمه، يملأ روحه بالهدوء وسط زحام الحروب والصراعات. تعلّم منها أن القوة الحقيقية ليست في الحديد، بل في العقل والروح.
في تلك الأيام، نشأت بينهما رابطة قوية، تلاقت فيها الأفكار، وتبادلت العهود على بناء مستقبل أفضل للمغرب. كان حبّهما خفيفًا كنسمة الصباح، لكنه عميق كجذور الزيتون في أرض الوطن.
كانت فاطمة شريكته في الفكر، وصوت الحكمة الذي يرشده في لحظات الضعف. معًا، بدأا يشكلان قوةً جديدة، تهدف إلى نهضة البلاد، لا بسيف فقط، بل بفكر وإنسانية.
✨ الفصل الرابع عشر: الخيانة
بينما كانت دعائم الدولة العلوية تتقوى شيئًا فشيئًا، ظهرت في الأفق سحبٌ قاتمة تهدد السلام الداخلي. إذ لم تكن الفتن من الخارج فقط، بل كان الخطر الأكبر يأتي أحيانًا من الداخل، من أولئك الذين تآمروا على الوحدة، بحثًا عن مصالح شخصية.
كان أحد كبار القادة في صفوف العلويين، الذي وثق به حمّاد كثيرًا، قد بدأ يزرع بذور الفتنة، مستغلاً ضعفًا في الوفاء بين بعض القبائل. وصلت إلى حمّاد أخبار عن اجتماعات سرية، تحالفات خفية، وخطط لتقويض المشروع.
في ليلة مظلمة، اجتمع حمّاد مع الشريف محمد بن علي، وتبادلا التحذيرات، وأكدا على ضرورة الحذر. قال الشريف:
> "العدو لا يلبس دومًا رداء العدو، فاحذر من القريب قبل البعيد."
شرع حمّاد في كشف الخيوط، مستخدمًا الحكمة بدل السيف، وحاول استمالة من ضلّوا، ليعيدهم إلى صفوف الدعوة. لكنه علم أن المعركة الحقيقية ليست فقط على الأرض، بل في قلوب الرجال.
في النهاية، لم تمنع الخيانة تقدم الدولة، لكنها كانت درسًا قاسيًا، علمت الجميع أن الوحدة تحتاج إلى يقظة دائمة، وأن الثقة لا تُمنح بسهولة.
✨ الفصل الخامس عشر: الرحيل إلى مكناس
بعد أن هدأت العواصف الداخلية، أدرك الشريف محمد بن علي أن على الدولة العلوية أن توسع نفوذها إلى الشمال، حيث تقع مدينة مكناس، التي باتت تمثل مركزًا استراتيجيًا مهمًا ومفتاحًا لتوحيد المغرب.
وكُلف حمّاد بقيادة وفدٍ رفيع إلى مكناس، يحمل رسالة سلام ودعوة إلى التحالف، لكنه كان يعلم أن الرحلة لن تكون سهلة، فمدينة مكناس كانت تعجّ بالصراعات والمصالح المتشابكة.
غادر حمّاد وأصحابه في فجر يومٍ صافٍ، وعبروا الأراضي الوعرة، يواجهون تحديات الطبيعة وأجواء عدم اليقين. وفي الطريق، تذكّر وصية والده:
> "في السفر، لا تنسى أن تزرع المحبة كما تزرع الأرض، فبدونها لا تحصد خيرًا."
وصلوا إلى مكناس حيث استقبلهم أهلها بحذر وفضول. بدأ حمّاد في عقد الاجتماعات مع زعماء المدينة، يناقش معهم ضرورة الوحدة والتعاون لبناء مستقبل مزدهر.
واجه مقاومة من بعض الأطراف التي رأت في المشروع تهديدًا لمصالحها، لكن إصرار حمّاد وصدق نيته كسبا قلوب كثيرين، وبدأت تحالفات جديدة تتشكل، تفتح باب الأمل لمرحلة جديدة من الوحدة والقوة.
✨ الفصل السادس عشر: ظلال التاريخ
تحت سماء مكناس الثقيلة بالغيوم، ظلّ الماضي يلقي بظلاله على حاضر الدولة العلوية الناشئة. لم تكن المخاطر الداخلية فقط ما يهدد المشروع، بل تحركات قوى عظمى تحاول أن تُبقي المغرب مقسمًا بين النفوذ العثماني والإسباني.
وصلت أنباء عن تحالفات سرية بين بعض القبائل والسلطات الخارجية، مما أثار قلق الشريف محمد بن علي وحاشيته. كان على الدولة العلوية أن تكون مستعدة لمواجهة هذه التحديات، ليس فقط بالسلاح، بل بالحكمة والدبلوماسية.
تحدث الشيخ التهامي مع حمّاد في مجلسٍ خاص، قائلاً:
> "يا بني، التاريخ لا يُكتب بالسيف وحده، بل بالقلب الصادق والعقل اليقظ. تعلم من ظلال الماضي، حتى لا تُظلم بك الظلال."
بدأ حمّاد يستوعب أن المواجهة القادمة ليست فقط على الأرض، بل في عقول الناس وقلوبهم، وأن بناء الدولة يحتاج إلى صبر طويل وتخطيط دقيق.
كان هذا الدرس مفتاحًا لفهم اللعبة الكبرى التي تحيط بالمغرب، وأكد له أن عليه أن يكون ليس فقط فارسًا، بل حكيمًا وقائدًا.
✨ الفصل السابع عشر: وصية الشيخ التهامي
في إحدى أمسيات مكناس الهادئة، دعا الشيخ التهامي حمّاد إلى مجلسه الخاص، حيث تتلاشى الأصوات وتعلو همسات الحكمة. جلس الاثنان تحت ظل شجرة زيتون عتيقة، وألقى الشيخ بنظرةٍ حانية، ثم قال:
> "يا بني، إن حكم الدولة لا يُبنى على السيوف وحدها، بل على مبادئ الحق والعدل. عليك أن تكون قلبَ القائد وعقلَه، وأن لا تنسى أبدًا أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار."
واصل الشيخ حديثه:
> "الناس بحاجة إلى قائدٍ يُلهمهم، لا يخاف من التحديات، ويعرف متى يُسلّم السلطة ومتى يتمسك بها بحكمة. كن كالنهر، يجري بهدوء، لكنه يَحفر في الصخر."
تلقى حمّاد هذه الكلمات ككنزٍ ثمين، وقرّر أن يجعل منها نهجه في كل خطوة يخطوها. أدرك أن الفارس الحقيقي ليس من يرفع السيف فقط، بل من يحمل في قلبه الحكمة، وفي عقله الرؤية الثاقبة.
غادر المجلس بقلبٍ ممتلئ بالعزم، وعقله مشحون بالتخطيط، مستعدًا لمواجهة ما يخبئه المستقبل من تحديات، مستعينًا بوصية الشيخ التي أصبحت نبراسًا له في رحلته.
✨ الفصل الثامن عشر: معركة الأطلس
كان الهدوء الذي خيّم على مكناس لا ينذر بالسلام، بل كان سكونًا يسبق العاصفة. فقد بدأت قبائل الأطلس الأوسط، المحرّكة من أطراف خارجية، تتململ وتعلن تمرّدها على الحكم العلوي، مدفوعةً بوهم الاستقلال ووعود العدو الخادعة.
أدرك الشريف محمد بن علي أنّ التأجيل لم يعد خيارًا، فأمر بتجهيز حملة بقيادة حمّاد، الذي صار اسمه يُهابه القاصي والداني. سار الجيش في صمت عبر الوديان والجبال، يعانق برد الأطلس بقلوب من نار.
عند تخوم منطقة إفران، دارت المعركة. لم تكن حربًا بالسيوف فقط، بل حربًا على الهوية والوحدة. قاتل حمّاد بشجاعة، يُلهم جنوده بالصبر، ويذكّرهم بأنهم لا يدافعون عن سلطانٍ، بل عن كرامة وطن بأسره.
وبينما كانت السهام تتطاير كالعواصف، صدح صوت الشيخ التهامي من ذاكرة حمّاد:
> "كن كالنهر… يحفر في الصخر."
انتهت المعركة بانتصار العلويين، لكن بثمن غالٍ. سقط كثير من الجنود، وارتفع لواء الدولة مُحمّلًا بدماء الأوفياء.
وبين الدخان والغبار، وقف حمّاد ينظر إلى الأفق، وهمس لنفسه:
> "لن تُبنى هذه الأرض إلا بالعزم والدم والوفاء."
✨ الفصل التاسع عشر: جراح النصر
رغم النصر الذي حقّقه جيش العلويين في الأطلس، فإنّ آثاره لم تكن هينة على القلوب. فقد امتلأت ساحات المعركة بجراح لا تُرى، وبدأت مكناس تستقبل العائدين وهم يجرّون خلفهم آلام الفقد.
جلس حمّاد في ركن قصر الحكم، متأمّلًا لائحة أسماء من سقطوا، يقرأها بصمت، وفي كل اسمٍ دمعة. لم يكن القائد الذي عاد من المعركة كما ذهب، فقد غيّرته الدماء، وصقلته التجربة.
دخلت عليه زينب، وقد بدا على وجهها القلق:
> "أما آن لقلبك أن يستريح؟ النصر لك، فلماذا كل هذا الحزن؟"
أجابها بصوت خافت:
> "لأن النصر الذي يُبنى على قبور الأبرياء، لا يُفرَح به بل يُتأمل. نحن لا نحكم فقط، بل نتحمل وزر أرواح كثيرة."
وفي جنازة جماعية في ساحة مكناس، وقف الشريف محمد بن علي وخطب في الناس:
> "لن ننسى من ضحّى، ولن ندع الفتنة تتسلل من جديد. سيُبنى هذا الوطن على قيم الوفاء والتكافل."
كان ذلك اليوم بداية لمراجعة كبرى في عقل السلطة، حيث بدأت مشاريع إصلاحية ترعى الجرحى وأبناء الشهداء، وتمنح الأرض حقّها في السلام بعد الحرب.
✨ الفصل العشرون: سرّ الرسالة القادمة من فاس
في صباح غائم، وبينما كانت مكناس تلملم جراحها وتبني آمالها، وصلت رسولية مستعجلة من مدينة فاس، مختومة بشمعٍ أحمر، وتحمل رموزًا لا يفتحها إلا وليّ الأمر.
استلم الشريف محمد بن علي الرسالة وقرأها بعينين متوتّرتين. كانت الكلمات مقتضبة، لكنها تحمل معاني عميقة:
> "تحرّكٌ غريب بين أزقة فاس، أصابع من الخارج تعبث في الظل. نخشى تمردًا تحت ستار التجارة."
لم تكن هذه الرسالة مجرّد تحذير، بل إنذار بأن العدو بدأ يغيّر تكتيكه، فبدل المواجهة بالسيف، بدأ التغلغل من خلال الأسواق، والعلماء، وبعض وجوه المدينة المأجورين.
استدعى الشريف حمّاد، وقرأ عليه الرسالة، فقال القائد وقد اشتدّ جبينه:
> "إنها حرب أخرى، مولاي... حرب تُخاض في الأسواق والقلوب لا في السهول."
قرر الشريف أن يرسل وفدًا بقيادة العالم الفقيه سيدي العياشي، رجل فاس الذي يُهابه الخونة ويحترمه العوام. كانت مهمته دقيقة: مراقبة من يحرّك الفتن، وتطويق الأزمة بحكمة لا بحد السيف.
في مساء ذلك اليوم، ودّع حمّاد الوفد المتّجه إلى فاس، وفي قلبه شعور خفي بأنّ فصولًا أخرى من الصراع بدأت تتشكّل… لكن في الظلام.
✨ الفصل الحادي والعشرون: فاس بين الخيانة والإصلاح
حين بلغ الوفد العلوي مدينة فاس، كان كل شيء فيها يوحي بحياة طبيعية؛ الأسواق تعج بالباعة، والمجالس تعلوها ضحكات العلماء، لكن سيدي العياشي، بعينه الخبيرة، شعر بأن الهدوء مصطنع، يخفي تحته نارًا تتأهب للانفجار.
في أحد مجالسه، همس إليه أحد تلامذته الأوفياء:
> "هناك من يوزع الذهب في الظل، ويدعو الناس للطعن في شرعية الدولة… ويستغل حاجة الفقراء."
بدأ العياشي تحقيقاته بهدوء، وجلس في حلقات العلم ليستمع، لا ليُحدّث. راقب رجالًا بألسنةٍ معسولة ونيات مريبة، يروّجون لأفكار تمس بوحدة الأمة.
في أحد الليالي، تمكّن رجاله من الإمساك برسالة سرية أُرسلت إلى "سيدي يعقوب"، أحد مشايخ الزوايا المعروف بصلته بأمراء من الشرق. كانت الرسالة تحتوي على تعهدات بدعم مالي مقابل إعلان العصيان.
استدعى العياشي والي فاس، واجتمع بشيوخها، ثم خطب فيهم في جامع القرويين:
> "من أراد الإصلاح فليكن ناصحًا، لا خائنًا. ومن أراد الحكم فليأتِ بالحق لا بالذهب. إن فاس، قلب هذا الوطن، لن تكون سكينًا في ظهره."
تجاوب الناس مع دعوته، وبدأت حملة تطهير واسعة لكل من ثبت تورطه في زرع الفتنة. وتم إغلاق الزوايا المشبوهة، ومحاسبة بعض القضاة الذين تم شراؤهم بالمال.
وهكذا، عادت فاس إلى حاضنة الدولة العلوية، ولكن هذه المرّة، لا بالسيف... بل بالحكمة والشرف.
✨ الفصل الثاني والعشرون: مؤامرة في قصر تافيلالت
بينما كانت فاس تلملم شتات الفتنة، كان قصر تافيلالت، معقل النشأة الأولى للدولة العلوية، يشهد ما لم يكن في الحسبان.
في إحدى الليالي المقمرة، تسللت خادمة إلى غرفة الشريف محمد بن علي وهمست:
> "مولاي... سمعت همسات غريبة بين الخدم والجنود، يذكرون رجلاً يُدعى الدرعي، ويقولون إنه الوريث الشرعي للسلالة."
كان "الدرعي" رجلاً غامضًا، يُقال إنه من نسل علويّ منسيّ، عاش طويلًا في الخفاء، وعاد الآن مدعومًا من تجار الذهب في الجنوب وبعض زعماء القبائل الذين خاب أملهم من قلة الامتيازات.
أمر الشريف بتشديد الحراسة، واستدعاء القائد حمّاد، فقال له:
> "لن تسقط الدولة في بيتها يا حمّاد، فلو كانت الخيانة من الخارج، لواجهناها، ولكن أن تأتي من تافيلالت نفسها… فهذه طعنة في القلب."
بدأ التحقيق، وكُشف عن شبكة تجسس مزروعة بين المطبخ والإسطبل وحتى حرس البوابة. كانوا ينقلون أخبار الشريف وخططه إلى "الدرعي"، الذي كان يعدّ لإعلان نفسه إمامًا للمؤمنين في واحدة من قبائل درعة.
لم يكن الرد سهلاً، فقد كان لزامًا على الشريف أن يطفئ نار المؤامرة دون أن يُضعف هيبة البيت العلوي أمام العامة. فأرسل رسالة إلى زعماء درعة، يذكرهم فيها بعهد البيعة، ويُرفقها بهدايا من التمر والملح، رمز البركة والسلام.
وفي ذات الوقت، تم اعتقال زعيم الشبكة، وكان من أقرب المقرّبين إلى القصر، رجل يُدعى سعيد الورزازي، وقد اعترف بكل شيء تحت ضوء القمر وصرير القيود.
وهكذا، تم إخماد المؤامرة في مهدها... ولكن ظلّ الدرعي لم يختفِ بعد.
✨ الفصل الثالث والعشرون: ظل الدرعي في جبال الأطلس
بعد فشل محاولته في تافيلالت، فرّ "الدرعي" إلى جبال الأطلس الكبير، حيث الجبال الشاهقة والكهوف المظلمة، وحيث القبائل المقاتلة لا تعترف إلا بالقوة.
هناك، وجد الدرعي ملاذًا بين بعض زعماء القبائل المتذمرين من قرارات الدولة العلوية، خصوصًا بعد فرض الضرائب الجديدة لضمان استقرار المدن. استغل ضعفهم وغضبهم ليقدّم نفسه كمنقذٍ، مدّعيًا أن حكمه سيعيد إليهم "المجد والحرية".
في المقابل، لم يبقَ الشريف محمد بن علي ساكنًا. أرسل القائد حمّاد على رأس كتيبة صغيرة لا للقتال، بل للتفاوض، وكان برفقته الفقيه السلاوي، رجلٌ عُرف بالحكمة والعلم.
تسلل حمّاد إلى معاقل القبائل المتحالفة مع الدرعي، وعرض عليهم رسائل موثقة من علماء فاس وتلمسان، تؤكد شرعية الحكم العلوي، وتُدين كل من يُفكك وحدة البلاد. كما ذكّرهم بالعهود القديمة بين الأشراف والقبائل، والبركات التي حلت بهم منذ بويع الأشراف بالحكم.
بدأت صفوف الدرعي تتفكك بصمت، وتوالت الانشقاقات. بعض الزعماء انسحبوا، والبعض سلّم رجالهم مقابل العفو.
حين أدرك الدرعي أنه محاصر من كل الجهات، فرّ مع قلة من أتباعه إلى قمم الجبال، واختفى عن الأنظار، كأن الأرض ابتلعته. لكنّ ظله ظلّ يخيّم على النفوس.
ولم يكن هذا الانتصار انتصارًا بالسيف، بل انتصارٌ للكلمة، للحنكة، ولشرعيةٍ تأسست على بيعة طاهرة ورضا عام.
✨ الفصل الرابع والعشرون: بيعة على أطلال الصراعات
عادت الهدوء إلى فاس وسوس وتافيلالت، وتراجع ظل الدرعي في الأطلس، لكن الشريف محمد بن علي العلوي لم يكن مغرورًا بالنصر. كان يدرك أن النصر لا يكتمل بالسيوف وحدها، بل بالقلوب التي تنبض بالرضا، والعقول التي تُؤمن بالعدل.
في موسم الحج إلى زاوية مولاي عبد السلام بن مشيش، اجتمع شيوخ القبائل وعلماء البلاد وممثلو المدن الكبرى في المغرب. دعوا إلى مجلس مفتوح، حضره الجميع، وكان على رأسهم محمد بن علي، يلبس عباءةً بسيطة كأيّ فقيه، لا كحاكم.
وقف شيخ قبائل دكالة وقال بصوت جهوري:
> "قد جربنا كل من تاجر بدمائنا، واليوم نبايع من وحّدنا بالقرآن والسنة، لا بالسيف ولا الذهب."
ورد عليه فقيه من مكناس:
> "نشهد أمام الله أن الدولة العلوية خرجت من صلب الشرف، ودخلت إلى قلوبنا بالعدل."
وعلى صخرة من صخور جبل العلم، وعلى مرأى من الجميع، تمت البيعة الرسمية الكبرى للشريف محمد بن علي العلوي، بإجماعٍ لم يشهد له المغرب مثيلًا منذ زمن طويل.
كان ذلك الحدث إيذانًا بولادة عهد جديد، قُطعت فيه جذور الفتنة، ووُلد فيه مفهوم جديد للدولة: دولة تستمد قوتها من شعبها، لا من بطشها.
وانطلقت الرسائل من الجبل إلى كل أنحاء البلاد:
> "البيعة تمت، والشرعية ثبتت، والدولة العلوية بدأت مسارها."
✨ الفصل الخامس والعشرون: فجر الدولة
كان صباح اليوم الموالي للبيعة مختلفًا تمامًا، فقد أشرقت شمس المغرب على عهدٍ جديد، سُمي فيما بعد بـفجر الدولة العلوية.
ركب الشريف محمد بن علي العلوي جواده، يرافقه حُماة الدولة ووجهاء القبائل، متجهين إلى تافيلالت، مسقط روحه، حيث سيُعلن رسميًا قيام الدولة من حيث بدأت النواة.
في الطريق، كانت القرى تحتفل، والأهالي يفرشون الأرض بالزهور والتراب الطاهر، والشباب يهتفون باسمه، ليس لأنه ملك، بل لأنه حاكمٌ اختارته القلوب قبل الألقاب.
وفي مسجد القصر الكبير، أُقيم أول دعاء رسمي باسم السلطان الشريف، ودوّي صوت المؤذن:
> "اللهم أصلح أمير المؤمنين، محمد بن علي العلوي، وبارك في عهده وملكه."
لم يكن التحدي قد انتهى، بل بدأ للتو. فالمغرب يومها كان مقسمًا وضعيف البنية، تنهشه أطماع الخارج، وتُرهقه الحروب الداخلية. لكنّ الدولة العلوية لم تُبنَ على الطمع، بل على العلم، الشرف، الدين، ووحدة الأرض.
بدأت الإصلاحات، تأسست مراكز العلم في فاس ومراكش، وتم ترميم الزوايا التي كانت محاضن التربية والدين، وتم تنظيم الجباية لتخدم الناس لا تُثقل كاهلهم.
أما أعداء الأمس، فقد دعاهم محمد بن علي إلى مجلس المصالحة، قائلاً:
> "لن نبني مجدًا فوق حطام القلوب، بل نمدّ اليد لكل من أراد الإصلاح."
وهكذا، خرج المغرب من ظلام الفتن إلى فجر دولة، استمرت في الحكم حتى يومنا هذا، شاهدة على أن العدل أساس المُلك، والشرف لا يورث إلا لمن يستحقه.