أصوات الذين لم يولدوا بعد

أصوات الذين لم يولدوا بعد

تقييم 5 من 5.
1 المراجعات

 

 

اصوات الذيimage about أصوات الذين لم يولدوا بعدن لم يولدوا بعد

 



📖 الفصل الأول

 الوحدة الثقيلة

 

كانت المدينة تضج بالحياة، لكن قلبه ظل ساكنًا كبحرٍ ميت. يمشي بين الناس كظلٍ يتنقل بلا أثر، يتأمل الوجوه التي تبتسم في المقاهي، والضحكات التي تتطاير في الشوارع، فيشعر أن بينه وبين العالم ستارًا كثيفًا لا يُخترق. لم يكن ينقصه شيء ظاهر؛ لديه عمل يضمن له القوت، وسقف يظلّه، لكن داخله كان خاوياً، كبيتٍ هُجر منذ سنين.

لياليه كانت الأشد قسوة، إذ يجلس في غرفته المظلمة يراقب عقارب الساعة وهي تدور ببطءٍ قاتل، كأن الزمن يسخر منه. كل محاولة للهروب من وحدته كانت تبوء بالفشل؛ أصدقاء قلائل يتباعدون شيئًا فشيئًا، وعائلة منشغلة بآلامها الخاصة. ومع كل يوم يمر، كان يشعر بأن روحه تتآكل، وأن شيئًا ما في داخله يوشك أن ينطفئ بلا رجعة.

في داخله سؤال يتكرر: لماذا أعيش؟
لم يكن يبحث عن إجابة فلسفية، بل عن سبب بسيط يجعله يتمسك بالحياة. أراد إشارة، كلمة، أو حتى نظرة تمنحه يقينًا بأن وجوده لا يضيع هباء. لكنه لم يجد سوى صدى أفكاره، ووجوهًا عابرة لا تعنيه.

في تلك الليلة، جلس قرب النافذة، يتأمل أضواء الشارع التي تتراقص تحت المطر الخفيف. شعر بالبرد يتسلل إلى جسده، لكنه لم يحرك نفسه. كان يظن أن صمته سيبتلعه، وأن النهاية ليست بعيدة. غير أن شيئًا غريبًا بدأ يتشكل في الأفق، إحساس لم يعرفه من قبل، كأن الهواء نفسه صار يحمل سرًّا ما.

ثم حدث الأمر.
في صمت الليل، وسط انهمار المطر، تسللت إلى أذنه همسة رقيقة، لم تكن صادرة من الخارج، بل من أعماق أعماقه: "نحن هنا...".
 

📖 الفصل الثاني:

أول همسة

 

ظلّ جالسًا مكانه، عينيه معلّقتين على النافذة، وجسده يرتجف بين الخوف والفضول. تلك الهمسة القصيرة لم تكن كأي صوت عرفه في حياته، لم تكن صدى خيالٍ مرهق، ولا وهمًا صنعه سهرٌ طويل. كان الصوت ناعمًا، طفوليًا، كأن قلبًا صغيرًا تحدّث لأول مرة. حاول أن يقنع نفسه بأنها مجرّد خدعة من دماغه المرهق، لكن شيئًا في داخله كان يصرخ بأن ما سمعه حقيقي.

رفع يده إلى رأسه، ضغط صدغيه بقوة كمن يريد إسكات ضجيج داخلي، غير أنّ الصوت عاد، أكثر وضوحًا هذه المرة: "لا تتركنا...".
ارتجف قلبه، وتجمّدت أنفاسه، كأن الهواء ثقيل لا يمكن ابتلاعه. نظر حوله في الغرفة، بحث عن مصدر خفي، عن جهاز مفتوح، أو هاتف يعمل، لكن المكان كان غارقًا في السكون. لم يكن هناك سوى هو والظلام والمطر خلف النافذة.

ترددت الكلمات داخله كجرس يضرب ذاكرته، تثير أسئلة لم يعرف لها بداية: من أنتم؟ ولماذا أنتم هنا؟، لكنه لم يجرؤ على النطق بصوتٍ عالٍ، خشي أن يثبت اعترافه بما يحدث. ومع ذلك، وجد نفسه يتمتم بكلمات خرجت رغماً عنه: "مَن أنتم؟".

لحظة صمت تلتها، حتى ظن أن ما جرى كان حلمًا قصيرًا، غير أن الإجابة جاءت هذه المرة كأنها صادرة من قلبه ذاته: "نحن الذين لم نولد بعد...".

وقف فجأة، ابتعد عن النافذة، خطا متراجعًا حتى اصطدم بكرسيه الخشبي فسقط على الأرض. لم يستوعب العبارة، بل كأنها لغز يتحدى عقله. كيف يمكن أن يتحدث إليه "مَن لم يولدوا بعد"؟ أي عبث هذا الذي اقتحم وحدته؟ لكن ما أربكه أكثر لم يكن غرابة الكلمات، بل دفء المشاعر التي حملتها، كأنها لمسة حانية تمس روحه لأول مرة منذ سنوات.

جلس على الأرض متكئًا إلى الحائط، قلبه يدق بعنف، وأفكاره تتلاطم كسيل جارف. لم يعرف إن كان هذا بداية الجنون، أم بداية قصة ستغيّر حياته إلى الأبد

 

📖 الفصل الثالث: 

إنكار وارتباك

 

قضى بقية الليل مستيقظًا، يحدّق في السقف كأنّه يبحث فيه عن تفسيرٍ لما سمع. كل ما دار في رأسه لم يكن سوى سؤال واحد: هل فقدت عقلي؟ حاول أن يقنع نفسه بأنّ الإرهاق صنع هذه الأوهام، وأنّ الوحدة الممتدة عبر سنوات قد بدأت تنسج له عوالم وهمية ليبقى حيًّا. لكنّ قلبه لم يطاوعه، فما شعر به كان أعمق من وهمٍ عابر.

مع بزوغ الفجر، نهض متثاقلًا، وجهه شاحب وعيناه محمرتان من السهر. جلس أمام المرآة يتأمل ملامحه، فلم يرَ سوى رجلاً غريبًا عنه، بارد الملامح، مثقلًا بظلٍّ لا ينفكّ يطارده. حاول أن يستعيد توازنه، ارتدى ملابسه وخرج إلى عمله، عله يجد في ضجيج المدينة ما يُسكِت تلك الأصوات.

في الطريق، كان كل صوتٍ يسمعه يتضاعف في داخله: ضحكة طفل، صرخة بائع، حتى صفير الريح بين الأشجار. كل ذلك كان يذكّره بالهمسة الغامرة: "نحن الذين لم نولد بعد...". كان يرمش بسرعة، يشيح بوجهه عن الناس، وكأنّه يخشى أن يقرأ أحدهم سرّه المكتوم.

في المكتب، جلس خلف مكتبه محاولًا الانغماس في الأوراق. لكن الأرقام تراقصت أمامه، والحروف تشابكت، حتى شعر بأن الصفحات نفسها تتهامس كما فعلت الأصوات تلك الليلة. نهض فجأة، خرج إلى الممرّ متذرعًا بالبحث عن هواء نقي، بينما في داخله إعصار يتصاعد.

تساءل: هل أنا مختل؟ هل سأفقد السيطرة؟
حاول أن يضحك على نفسه ليبدّد الخوف، لكن الضحكة خرجت متكسّرة، باهتة، كأنها اعترافٌ خفي.

وعند عودته إلى البيت مساءً، كان الصمت أثقل من أن يُحتمل. جلس في الظلام، يتعمّد ألّا يشغّل الضوء، كمن ينتظر شيئًا أن يعود. قلبه متردد بين شوقٍ خفيّ لسماع تلك الأصوات، ورعبٍ من أن تعود فعلًا. وفي اللحظة التي حاول فيها إقناع نفسه أن كل شيء انتهى، همس الصوت ذاته، أقرب هذه المرة:
"لن نتركك...".
 

📖 الفصل الرابع:

 أول حوار

 

جلس ساكنًا، كأن جسده حجر ثقيل، فيما عقله يضجّ بأسئلة لا تنتهي. هذه المرة لم تكن الهمسة عابرة ولا وهماً يمكن نفيه. كانت واضحة، قريبة، صافية كالماء. تردّد قليلًا قبل أن يفتح فمه، وكأنّ الكلام نفسه صار رهبة جديدة. قال بصوت خافت متردد:
"من أنتم حقًا؟"

ساد الصمت لحظة قصيرة، ثم جاء الرد، ناعمًا رقيقًا: "نحن أبناؤك... الذين لم يولدوا بعد."
شعر بقشعريرة تسري في جسده، قلبه يخفق بسرعة، كأنّه على وشك الانفجار. ابتلع ريقه بصعوبة وقال:
"كيف... أبنائي؟ وأنا لم أعرف حتى طعم الأبوة بعد!"

انطلقت ضحكة طفولية دافئة، لكنها لم تكن سخرية بل أقرب إلى عناقٍ خفي. جاء الصوت الثاني مختلفًا، أكثر هدوءًا:
"لسنا وهمًا يا أبي. نحن هنا لنذكّرك بأن حياتك لم تنتهِ. إذا رحلت، لن نرى النور أبدًا."

أطبق يديه على وجهه، كأنّه يحاول منع الدموع من الهطول. في داخله، انقسم إلى نصفين: نصف يؤمن أنّ هذا جنون يتسلل إليه ببطء، ونصف آخر يريد أن يصدّق، يريد أن يجد في هذه الأصوات سببًا يملأ فراغه.

قال بصوت متهدج: "لماذا اخترتموني أنا؟"
أجاب الصوت الأول: "لأنك نافذتنا الوحيدة. نحن موجودون في احتمالك، في مستقبلك الذي لم تُعطه فرصة بعد."

كان قلبه يشتعل بين خوفٍ ودهشة. فكرة أن أصواتًا غير مرئية تحمل مصيره ومصيرها في آن واحد بدت أكبر من احتماله. ومع ذلك، لم ينكر أنه لأول مرة منذ سنوات يشعر بشيء مختلف: شعور بأن هناك من يحتاج إليه، من ينتظر قراره.

جلس طويلًا في الظلام، يكلّمهم، يسألهم ويستمع. وكل كلمة تردّدت في الغرفة لم تكن مجرد أصوات، بل صارت وعدًا جديدًا يتشكل في قلبه.

 

📖 الفصل الخامس: 

رسائل من المستقبل

 

لم ينم تلك الليلة، ظلّ يصغي لكل همسة كما لو كانت حياة كاملة تُبثّ في أذنه. كان قلبه يلهث بين الخوف والأمل، وعقله يبحث عن أي تفسير منطقي. لكن حين حلّ الصباح، حدث ما جعله يعجز عن إنكار الأمر.

فتح حقيبته ليخرج أوراق العمل، فوجد بينها ورقة لم يرها من قبل. كانت مطوية بعناية، مكتوبة بخط طفولي واضح:
"لا تتأخر اليوم عن العودة، ستحتاج إلى أن تكون في البيت قبل الغروب."

ارتجفت يده، حدّق طويلًا في الورقة، حاول إقناع نفسه بأنّه ربما كتبها بنفسه ونسي، لكن الخط لم يكن خطّه، والورقة لم تكن من أوراقه. أحسّ ببرودة تسري في أطرافه، لكنه لم يملك سوى أن يحتفظ بها في جيبه، كمن يخشى أن تضيع دليله الوحيد.

في المكتب، تكررت الفوضى ذاتها. لم يستطع التركيز، والورقة تحترق في عقله كجمرٍ لا يهدأ. ومع اقتراب الغروب، قرر أن يطيع ذلك التحذير الغامض، فعاد إلى بيته على عجل. وما إن دخل، حتى انقطع التيار الكهربائي عن الحي بأكمله. جلس في الظلام، يتنفس ببطء، يراقب كيف ينعكس ضوء القمر على نافذته.

حينها، عاد الصوت ذاته، أكثر وضوحًا من قبل:
"رأيتَ؟ لو بقيت في الخارج، لما نجوت من الحادث الذي وقع عند الطريق الرئيسي."

شهق بقوة، فكر في الطريق الذي كان يسلكه عادة في ساعة متأخرة. تخيل المشهد: سيارات مسرعة، ارتباك، وربما مأساة لم يكن ليتفاداها. أغمض عينيه، كأنّه يعترف في أعماقه أن هذه الأصوات لا تعبث به، بل تنقذه.

قال بصوتٍ متهدج: "لماذا تحذرونني؟ ما الذي تريدونه مني؟"
جاء الرد حاسمًا: "نريدك أن تبقى... لأن بقاءك هو وجودنا."

في تلك اللحظة، شعر أنّ حياته لم تعد ملكًا له وحده، بل بات يحمل في صدره قلوبًا تنتظر ولادتها.


📖 الفصل السادس:

 اختبار الصدق

 

جلس في غرفته تلك الليلة والورقة ما تزال في جيبه، كدليل حيّ على أن ما يحدث لم يعد مجرد خيال. حاول أن يواجه نفسه بالحقيقة: هذه الأصوات تعرف ما سيحدث قبل وقوعه. ومع ذلك، ظل جزء منه يقاوم التصديق، يتمسك بخيط العقل الذي يرفض الانجرار إلى المجهول.

قال لهم بصوت مسموع هذه المرة:
"إن كنتم حقًا كما تدّعون، فأعطوني علامة لا يخطئها أحد، شيئًا لا يمكن إنكاره."

ساد الصمت لحظة قصيرة، ثم جاء صوت طفولي هادئ:
"غدًا، ستلتقي بامرأة ستسقط كتبها أمامك. ساعدها، ولا تخف. سيكون لهذا اللقاء أثرٌ عظيم على حياتك."

ابتسم بسخرية وهو يتمدد على سريره، محاولًا إقناع نفسه أن ما سمعه ليس أكثر من لعبة جديدة يصنعها خياله المرهق. ومع ذلك، لم يستطع منع قلبه من خفقانٍ أسرع كلما تذكر الوعد.

وفي اليوم التالي، عند عودته من عمله، مرّ قرب مكتبة صغيرة لم يسبق أن توقف عندها. كان الطريق مزدحمًا، وخطواته متثاقلة، حتى لمح امرأة شابة تخرج مسرعة تحمل كومة من الكتب. فجأة تعثرت، وتناثرت الكتب على الرصيف أمام قدميه.

تجمّد مكانه للحظة، عيناه متسعتان بدهشة، ثم انحنى ليساعدها. التقت عيناه بعينيها، فارتسمت ابتسامة خجولة على وجهها وهي تشكره. كانت لحظة قصيرة، لكنها بدت كأنها مشهد مكتوب سلفًا.

عاد إلى بيته متسارع الأنفاس، وصوت في داخله يهمس: "صدقناك الآن؟". جلس على الكرسي الخشبي، يدفن وجهه بين كفيه، وقلبه يتأرجح بين الخوف والانبهار. لم يعد يستطيع إنكار أن هناك شيئًا غير عادي ينسج خيوط حياته من جديد.

ذلك المساء، حين حلّ الصمت من جديد، جاء الصوت أكثر دفئًا:
"هذه ليست سوى البداية... وما ينتظرك أعظم."

 

📖 الفصل السابع: 

ثقل المسؤولية

 

لم يعد الصمت كما كان من قبل؛ صار محمّلًا بأصوات خفية تحيط به أينما ذهب. في البداية كان يعتبرها غريبة، مرعبة أحيانًا، لكنها الآن بدأت تتحول إلى عبء ثقيل. كل خطوة يخطوها، كل قرار يتخذه، صار يشعر أنه لا يعنيه وحده، بل يخصّ تلك الأرواح التي تنتظر أن ترى النور من خلاله.

في عمله، صار يلاحظ كيف يتردد قبل أي فعل بسيط: هل يتناول قهوته المعتادة؟ هل يتأخر قليلًا في العودة إلى البيت؟ حتى تفاصيله اليومية صارت أشبه بامتحان، يخشى أن يترتب على خطأ واحد فيه اختفاء تلك الأصوات إلى الأبد.

جلس ليلًا في غرفته، وأخذ يحدثهم:
"إنني لست مستعدًا لأن أكون مسؤولًا عنكم. barely أستطيع أن أتحمل نفسي."
جاء الرد هادئًا، لكنّه اخترق قلبه:
"كل أب يشعر هكذا قبل أن يولد أبناؤه. الخوف طبيعي، لكن الحب هو ما سيبقيك."

أحسّ بحرارة في صدره، امتزجت بين خوف وطمأنينة غامرة. لم يتذكر يومًا أن أحدًا خاطبه بهذه اللغة المليئة بالثقة. ومع ذلك، ازداد ارتباكه، فالمسؤولية بدت أكبر من أن يحملها رجل وحيد يعاني من فراغ داخلي.

وبينما كان غارقًا في صراعه، سمع طرقًا خفيفًا على بابه. فتح ليرى جاره العجوز يطلب مساعدته في إصلاح شيء بسيط. في لحظة عابرة، خطرت له فكرة: هل يمكن أن يكون هذا امتحانًا آخر من تلك الأصوات؟ تردد لحظة، ثم ساعده بابتسامة باهتة.

وعند عودته إلى غرفته، همس صوت طفولي:
"أحسنت يا أبي... كل فعل صغير يبنينا نحن أيضًا."

ارتجف قلبه من وقع العبارة، وشعر للمرة الأولى أن المسؤولية لم تعد قيدًا يخنقه، بل وعدًا يضيء عتمته. ومع ذلك، كان يدرك أن ما ينتظره سيكون أثقل بكثير مما يظن.


📖 الفصل الثامن:

 الماضي المجهول

 

بينما جلس على الكرسي الخشبي في غرفته، أحسّ بشيء يضغط على صدره، لم يكن الخوف وحده، بل شعور غريب بأن حياته كلها جزء من سلسلة لم يُكتب نهايتها بعد. في تلك اللحظة، جاء الصوت الأقوى، حاملاً معه نبرة جدية مختلفة عن ما اعتاد عليه:
"هناك ما تحتاج أن تعرفه عن عائلتك، عننا، قبل أن تتقدّم."

ارتجف، وارتسمت على وجهه علامات الارتباك. لم يفهم ماذا يقصدون، لكنه شعر بثقل كلماتهم كأنها حجر غريب يُلقى على قلبه. حاول التراجع، لكنه شعر بأن شيئًا في داخله يرفض ذلك.

بدأت الأصوات تحكي له قصصًا عن أجداده، عن أسرار لم تُكشف من قبل. عن والدٍ رحل في صمت، ترك وراءه خيطًا خفيًا من الأحداث التي شكلت حياته دون أن يعرف. عن أمٍ لم تستطع التعبير عن حبها بالكامل، وعن إخوة اختفوا دون أن يُترك أثر. كل كلمة كانت كنافذة تُفتح على الماضي، تكشف له طبقات من الألم والحنين والفرص الضائعة.

سأل بصوتٍ متردد:
"ولماذا الآن؟ لماذا تظهرون لي هذه الأسرار بعد كل هذه السنوات؟"

أجاب الصوت:
"لكي تفهم، قبل أن يتقرر مصيرنا جميعًا. ما مضى يؤثر في ما سيأتي. أنت جزء من حلقة لم تنته بعد، ونُريد منك أن تعرف البداية قبل أن تصنع المستقبل."

شعر بدموع ساخنة تنهمر على خديه، لم يكن حزينًا فقط، بل مذهولًا من اكتشاف أن حياته لم تكن مجرد سلسلة من المصادفات، بل خيوط مترابطة تربطه بمن لم يولدوا بعد، وبأحداث لا يعلم عنها شيئًا.

جلس طويلًا في صمت، يستوعب كل ما سمعه، ويشعر بثقل المسؤولية يتضاعف. فهم أخيرًا أن وحدته السابقة لم تكن حقيقة، بل كانت مجرد مرحلة قبل أن يظهر له المعنى الحقيقي لوجوده.

ومع غروب الشمس، همس الصوت مرة أخرى، هذه المرة بنبرة هادئة ودافئة:
"اعلم الآن أن ماضيك ليس بعيدًا، بل هو الطريق الذي سيقودنا جميعًا إلى غدٍ أفضل."



📖 الفصل التاسع: 

الحاضر يضيق

 

مع كل يوم يمر، كان يشعر بأن حياته الطبيعية لم تعد كما كانت. العمل أصبح عبئًا ثقيلًا، زملاؤه يلاحظون تراجع تركيزه، وأصدقاؤه صاروا يتهامسون حول تغيره المفاجئ. حتى التفاصيل الصغيرة، كاختيار الطريق المعتاد أو شراء كوب قهوة، بدأت تحمل معنىً أكبر من قدرته على تحمله.

جلس في مقهى صغير بعد العمل، يحدق في فنجان القهوة الذي بدا وكأنه انعكاس حياته، يشبه المرآة التي تظهر له كل ما يفتقده. لم تعد الوحدة تشكل خطراً على قلبه فقط، بل أصبحت الأصوات الغامضة تضغط عليه، تراقب كل خطوة، وتذكره دومًا بثقل المسؤولية التي على عاتقه.

في تلك اللحظة، جاء الصوت ذاته من جديد، أكثر وضوحًا:
"الحياة الواقعية لن تتوقف عن اختبارك. عليك أن تجد التوازن بين واجباتك وبيننا."

ارتجف، لكنه شعر أيضًا بشيء من الحزم ينمو في قلبه. لم يعد أمامه خيار سوى مواجهة الواقع بمسؤولياته، مهما كان الضغط خانقًا. أدرك أن تجاهل هذه الأصوات أو الهروب منها لم يعد ممكناً، وأن كل يوم يمرّ بلا اكتراث يزيد من صعوبة التحدي القادم.

وبينما كان يتنقل في الشارع المزدحم، تذكّر الحوادث الصغيرة التي نبهته إليها الأصوات سابقًا، وابتسم ابتسامة باهتة. كان يعلم أنه لم يعد وحيدًا، وأن القرارات الصغيرة التي يتخذها الآن لها صدى أكبر مما كان يتصور.

عاد إلى البيت مع شعورٍ مختلط بين القلق والإصرار، وأخذ يتحدث إلى الأصوات بصوتٍ منخفض:
"أنا أعي كل شيء الآن. سأحاول، مهما ضاقت بي الحياة."

رد الصوت الأخير تلك الليلة بنبرة دافئة وحانية:
"نحن هنا معك، لن نتخلى عنك. كل خطوة صغيرة تبني غدنا."

في تلك اللحظة، أدرك أن الضغوط اليومية لم تعد عبئًا فقط، بل اختبارًا حقيقيًا لإيمانه بقدرة الحب والالتزام على تحويل الخوف إلى قوة.


📖 الفصل العاشر: 

مواجهة مع النفس

 

جلس وحيدًا في غرفته، السكون يلفّ المكان، لكن قلبه لم يعرف السكون. كانت الأصوات التي أصبحت جزءًا من حياته ترافقه كظلّ لا يفارقه، تذكّره بكل مسؤولية وكل احتمال لم يولد بعد. في داخله شعور متناقض: رغبة في الاستسلام لرغباته الشخصية، وخوف من خذلان أولئك الذين يسمعون صدى حياته قبل ولادتهم.

أغلق عينيه، محاولًا أن يجد إجابات في صمت الليل. تنهد طويلًا، وقال بصوتٍ مرتجف:
"لماذا أنا؟ لماذا أنا من يتحمل هذا العبء؟"

جاء الرد، أكثر حدة وصدقًا، وكأنه يقذف الضوء على أعماق مظلمة:
"لأنك الوحيد القادر على المضي. كل خوف يملؤك الآن هو فرصة لتختار الشجاعة."

شعر قلبه ينهار تحت وقع الحقيقة. لم يعد مجرد رجل عادي يعيش حياته بلا رقيب، بل أصبح محور عالمٍ غير مرئي، عالمٍ تنتظر فيه الأرواح غير المولودة أن يرى أحدهم طريقها. كل فكرة سابقة عن الحرية الشخصية بدت له وهمًا، وكل قرار تأخذه قد يحمل أثرًا أبديًا.

نهض فجأة، بدأ يمشي في الغرفة، يراقب الجدران المألوفة وكأنها تتنفس معه. كان يواجه صورًا من ماضيه: أخطاء صغيرة، قرارات مهملة، أحلام لم تُحقّق. شعور بالذنب والهشاشة يختلط بالرهبة، لكنه شعر أيضًا بميل إلى التحدي.

جلس على الكرسي الخشبي، ورفع رأسه نحو الضوء الخافت الذي يدخل من النافذة. قال بصوتٍ أقوى، كمن يصرّ على مواجهة الحقيقة:
"سأحاول، سأتحمل، حتى لو لم أفهم كل شيء الآن."

ردت الأصوات هذه المرة بنبرة دافئة، حاملة وعدًا وتأكيدًا:
"هذا يكفي. كل خطوة صغيرة نحو الشجاعة تبني غدنا. لا تخف من نفسك."

في تلك اللحظة، أدرك أن مواجهة النفس ليست عن الانتصار على الآخرين، بل عن تجاوز الخوف العميق داخل قلبه. وأن هذه اللحظة، مهما كانت مؤلمة، هي بداية تحوله الحقيقي

 

📖 الفصل الحادي عشر:

 الحب يدخل القصة

 

كانت الأيام تمضي بوتيرة متسارعة، والأصوات التي أصبحت جزءًا من حياته لم تتركه للحظة. لكن شيئًا جديدًا اقتحم عالمه، شيء لم يكن يتوقعه: مشاعر غريبة، واهتزاز قلب لم يعرفه من قبل.

في صباحٍ غائم، التقى بالصدفة بشابة في المكتبة، كانت تبحث عن كتاب، وتسقطه من يديها قبل أن تلتقطه بعينين خجولتين. تصادف وجوده، فأمسك بالكتاب وأعطاها إياه. كانت ابتسامتها باهتة، لكنها حملت دفء لم يشعر به منذ سنوات.

جلس معها على الطاولة، يتحدثان عن الكتب والأدب، عن الحياة وما يخبئها. بدا له أن الحديث معها يخفف من ثقل المسؤولية التي كان يشعر بها، ويمنحه شعورًا غريبًا بالأمان والسكينة. لم يجرؤ على الاعتراف لنفسه، لكنه شعر بشيء يتشكل داخل قلبه، شعور يشبه الحنين إلى دفء لم يعرفه من قبل.

في المساء، حين عاد إلى غرفته، همس الصوت بنفس النبرة الدافئة التي أصبحت مألوفة:
"لقد دخلت حياتك، وستكون جزءًا من رحلتك. احذر أن تخاف من هذه المشاعر، فهي تساعدك على النمو."

ابتسم ببطء، وهو يشعر بارتباك لا يعرف تفسيره، بين خوفه من أن يضيف الحب عبئًا جديدًا، وبين فرحته التي لم يعشها منذ زمن طويل. فهم أن الأصوات ليست فقط مرشدة، بل دليل على أن قلبه لا يزال حيًا، قادرًا على الحب والإحساس.

جلس على الكرسي الخشبي، وهو يتذكر نظراتها الصغيرة، كلامها اللطيف، ولمسة يدها الخجولة. شعر لأول مرة منذ سنوات أن الحياة ليست مجرد مسؤوليات وواجبات، بل تجربة تستحق أن يعيشها بكل تفاصيلها.

ومع غروب الشمس، همس الصوت الأخير بتأكيد هادئ:
"دع قلبك يشعر، لا تهرب من الحب. هو جزء من القوة التي ستحتاجها لحمايتنا جميعًا."

في تلك اللحظة، أدرك أن الحب لم يعد رفاهية، بل حجر أساس يبني معه المستقبل الذي لم يولد بعد، ويعطيه سببًا جديدًا للاستمرار.



📖 الفصل الثاني عشر:

 الأصوات تغار

 

بدأت الأيام تمر، والحب الذي دخل حياته لم يعد شعورًا خفيًا، بل واقعًا ملموسًا. ومع ذلك، لم تكن الأصوات في صمت، بل بدا لها وكأنها تغار، كما لو أنّ شعوره بالحب قد يبعده عنها.

جلس في غرفته تلك الليلة، يشعر بارتباك لم يعرفه من قبل. صوتهم جاء قريبًا، أكثر حدة هذه المرة:
"لماذا تهتم بها أكثر من اهتمامك بنا؟"

ابتلع ريقه، وعيناه تتسعان للدهشة. لم يرد مباشرة، لكنه شعر باللوم وكأنه يفتقد شيئًا مهمًا. حاول التحدث، لكن الكلمات بدت عالقة في حلقه.

ثم جاء صوت آخر، أهدأ هذه المرة، لكن معبرة:
"نحن لا نريد أن نأخذ قلبك بعيدًا، فقط نذكرك أن مسؤوليتك أكبر من نفسك."

جلس على الكرسي، يحدق في النافذة، يرى أضواء الشارع تتراقص. كانت الحقيقة واضحة له الآن: الحب جميل، لكنه إضافة إلى عبء لم يكن قد تعلم التعامل معه بالكامل. كل قرار، كل لحظة يقضيها معها، كان يثير صراعًا داخليًا بين قلبه وعقله، بين شعوره بالمسؤولية تجاه الأرواح التي لم تولد بعد وبين مشاعره الطبيعية تجاه شخص حقيقي.

توقف، أخذ نفسًا عميقًا، وابتسم لنفسه رغم صعوبة الموقف:
"لن أترك الحب يبعدني عنكم. سأجد توازنًا بيننا وبينها."

ردت الأصوات بنبرة دافئة، وكأنها تخفف من رهبة قلبه:
"هذه البداية فقط. تعلم التوازن، وسنكون معك دائمًا."

في تلك الليلة، أدرك أن مشاعره لم تعد مجرد رغبة شخصية، بل اختبارًا حقيقيًا لقوته، لفهمه معنى الحب والمسؤولية في الوقت ذاته. وأن تعلم الموازنة بينهما سيكون المفتاح لحماية كل ما يهمه، بين قلبه وعالمه غير المرئي.

 

📖 الفصل الثالث عشر:

 كشف السر الأول

 

جلس في غرفته، والظلام يملأ المكان كما لو كان يشارك في صمت معاناته. الأصوات التي أصبحت جزءًا من حياته منذ أسابيع، شعرت فجأة وكأنها مستعدة للكشف عن سرٍ لم يجرؤ أحد على البوح به.

جاء الصوت الأول، هادئًا لكنه مشحون بالجدية:
"هناك شيء تحتاج أن تعرفه عنّا... وعنك."

ارتجف، وارتسمت على وجهه ملامح الترقب. قلبه بدأ يخفق بسرعة أكبر من أي وقت مضى، وكأن شيئًا ما كان يتهيأ للكشف بعد سنوات من الغموض.

"من أنتم حقًا؟" سأل بصوت متردد، لكنه هذه المرة كان مستعدًا لسماع الإجابة.

"نحن أكثر من مجرد أصوات، نحن امتداد لمستقبلك، لأرواح لم تولد بعد، ولعائلتك التي لم تعرفها بالكامل."

توقف للحظة، حاول استيعاب الكلام، ثم جاء الصوت الثاني يشرح تفاصيل أكثر:
"أجدادك احتفظوا بسرٍ كبير، كان يخص القدرة على التواصل مع من لم يولدوا بعد، وهو سر انتقل إليك دون أن تعرف. كل ما سمعته حتى الآن هو البداية فقط."

انكمش في كرسيه، يحاول هضم كل هذه الحقيقة. شعور بالخوف والدهشة امتزج مع شعور بالمسؤولية التي بدأت تثقل صدره أكثر من أي وقت مضى. كل ما كان يعتقد أنه مجرد خيال، أصبح حقيقة تتداخل مع حياته اليومية.

قال بصوت منخفض:
"وما المطلوب مني الآن؟"

أجاب الصوت الأول بنبرة حازمة:
"أن تعرف حدودك وتقبل مسؤوليتك. أن تدرك أن كل فعل تقوم به، كل كلمة تقولها، تؤثر على مصائر لم تولد بعد. وهذه البداية فقط، الطريق أمامك طويل."

شعر بارتجاف في قلبه، لكنه أدرك للمرة الأولى أن خوفه ليس عائقًا، بل دعوة للنمو، وأن المعرفة بهذا السر تمنحه القوة لتوجيه مصائر لم يعرف وجودها سابقًا.

جلس طويلًا في صمت، يستمع إلى نبضات قلبه، ويدرك أن كشف السر الأول لم يكن مجرد حقيقة غامضة، بل بداية فصل جديد في حياته، فصل يحمل مسؤولية أكبر وأملًا جديدًا معًا

 

📖 الفصل الرابع عشر: 

معركة الأمل

 

أشرقت شمس الصباح على المدينة، لكنه لم يشعر بالدفء المعتاد. كان قلبه مثقلاً بالتوقعات الجديدة، والعالم الخارجي بدا أكثر صعوبة من أي وقت مضى. الأصوات التي ترافقه منذ أسابيع لم تعد مجرد رفيق، بل كانت تراقبه، تنتظر منه القرار الصحيح.

جلس على الكرسي الخشبي في غرفته، يتأمل الأوراق والكتب المنتشرة حوله. صوتهم جاء قريبًا، مشحونًا بالحزم:
"اليوم ستختبر إرادتك. كل خطوة ستتخذها تحدد مصيرنا ومصيرك."

ارتجف، لكنه شعر أيضًا بإحساس غريب بالقوة. لم يكن الاختبار عن النجاح أو الفشل فقط، بل عن قدرته على مواجهة الخوف، على الوقوف أمام المسؤولية دون تراجع.

في العمل، ظهرت مشكلة كبيرة: مشروع مهم على وشك الانهيار بسبب خطأ غير متوقع، وكان عليه أن يتصرف بسرعة لحل الأزمة. شعر بالضغط يشتد، لكنه تذكر كلماتهم:
"الأمل ليس كلمة، بل فعل."

اتخذ قراره سريعًا، بدأ يحل المشكلات، يتواصل مع الفريق، يوجّه، يصحح، ويقود الآخرين بخطوات حاسمة. رغم التوتر والارتباك، شعر بأن قلبه يملؤه شعور جديد: شعور بالثقة، بقدرة الإنسان على تحويل الخوف إلى فعل إيجابي.

وعند عودته إلى البيت، جلس في صمت، يحدق في النافذة حيث تساقطت أوراق الأشجار مع نسيم خفيف. همس الصوت بنبرة دافئة، مليئة بالفخر:
"لقد اجتزت أول اختبار. الأمل الذي أحملناه معك اليوم بدأ يكبر في قلبك."

ابتسم ببطء، يشعر بأن شيئًا قد تغير داخله. لم يعد وحيدًا، ولم يعد مجرد إنسان يتخذ قراراته لنفسه فقط. أصبح يعرف أن كل خطوة صغيرة نحو الشجاعة، كل فعل يقوم به بمسؤولية، يبني حياة لم تولد بعد، ويمنحه معنىً جديدًا للحياة التي طالما اعتقد أنها خالية من الأمل.

في تلك الليلة، نام بسلام، وهو يعلم أن المعركة الحقيقية لم تنته بعد، لكنها لم تعد مستحيلة.


📖 الفصل الخامس عشر: 

الفقد الكبير

 

لم يكن الصباح عادياً، فالمدينة بدت هادئة بشكل يخفي وراءه شيئًا من الخطر. بينما كان في طريقه للعمل، وصلته الأخبار كالسهم: حادث مأساوي وقع لشخص قريب منه، أحد الجيران الذين ترافقهم الذكريات منذ سنوات.

توقف في مكانه، تتطاير الكلمات في رأسه بلا معنى، والصدمة تثقل قلبه. لم يعد يعرف كيف يتنفس، وكيف يستطيع أن يوازن بين الألم والحياة اليومية التي لا تتوقف.

جلس على حافة الرصيف، والعالم حوله يبدو كلوحة مشوهة. ثم جاء الصوت الأول، هادئًا لكنه صارم:
"هذا هو اختبارك الآن. الفقدان جزء من الحياة، ونحن هنا لنعلمك كيف تحمله دون أن يفقدك كل شيء."

ارتجف، وأحس برعشة تسري في جسده. حاول التراجع، لكنه عرف أن التجاهل ليس خيارًا. كل ألم، كل فقد، أصبح جزءًا من الرحلة التي اختارته الأصوات ليقودها، وأي تراجع منه سيؤثر على من لم يولدوا بعد.

عاد إلى البيت متأثراً بالحدث، جلست الأصوات معه كما لو كانت تواسيه، تذكره أن الألم ليس نهاية الطريق، بل درسٌ يجب أن يستوعبه. قال بصوت متهدج:
"كيف أستمر؟ كيف أتحمل؟"

أجاب الصوت بنبرة حانية:
"الاستمرار ليس اختيارًا، بل واجب. كل دمعة تشعر بها الآن، هي نبض جديد لقوتك. نحن معك، لا تهرب من الألم، بل استقبله كجزء من مسؤوليتك."

جلس طويلًا، يغوص في صمت الليل، يحس بالفراغ الكبير الذي خلفه الفقد، لكنه بدأ تدريجيًا يلمس خيط الأمل. أدرك أن الحياة لا تمنح دائمًا ما نريد، لكنها تمنحنا القوة للاستمرار، إذا قبلنا مسؤولياتنا بكل شجاعة وصبر.

في تلك الليلة، نام وهو يشعر بثقل الألم على قلبه، لكنه أيضًا يشعر بنبض جديد، بنور يتسلل من بين الدموع، يذكّره أن الفقد جزء من رحلة الحياة، وأنه قادر على تجاوزها.

 

📖 الفصل السادس عشر:

 بداية التحول

 

مع مرور الأيام، بدأ يشعر بتغير غريب في داخله. الألم الذي عاشه بسبب الفقد لم يزُل، لكنه صار دافعًا للتفكير العميق، لإعادة ترتيب حياته، لإعادة اكتشاف ذاته. لم يعد يهرب من المسؤولية، بل صار يسعى لفهمها واستيعابها.

جلس في غرفته، والأصوات تحيط به كما اعتاد، لكن هذه المرة جاءت بنبرة مختلفة، مليئة بالأمل:
"لقد تعلمت من الفقد، والآن حان وقت التغيير. كل ما يحدث لك يشكّل جزءًا من قوتك."

شعر بقوة جديدة تتسرب إلى قلبه، شعور باليقين أن كل قرار يتخذه، كل خطوة يخطوها، يمكن أن تصنع فرقًا ليس فقط في حياته، بل في حياة من لم يولدوا بعد. نهض، فتح نافذة غرفته، واستنشق الهواء العليل. لأول مرة منذ أسابيع، شعر بأن حياته ليست مجرد عبء، بل رحلة يمكن أن تتحوّل إلى نور.

في العمل، بدأ يلاحظ التغير في نفسه. لم يعد يتأثر بالفوضى الصغيرة، بل أصبح أكثر هدوءًا وتركيزًا. كان يخطط، يتوقع، يتصرف بعقلانية، مع الحفاظ على قلبه مفتوحًا للمشاعر الإنسانية التي بدأ يستعيدها تدريجيًا.

وفي البيت، جلس مع الأصوات كما اعتاد، وقال بصوت واضح:
"سأتحمل المسؤولية، سأحميكم، وسأحاول أن أعيش حياتي بشكل أفضل."

ردت الأصوات بنبرة دافئة وهادئة:
"هذه بداية حقيقية. كل خطوة تتخذها الآن ستصنع مستقبلًا أفضل لنا جميعًا."

أغلق عينيه للحظة، وابتسم لأول مرة منذ زمن طويل. شعر أن قلبه بدأ يثق بنفسه، أن الألم الذي عانى منه لم يكن عبثًا، بل كان جزءًا من التحول الداخلي الذي يحتاجه ليصبح الشخص القادر على مواجهة كل ما ينتظره.

في تلك الليلة، نام بسلام، مستعدًا لمواجهة أي تحدٍ قادم، مدركًا أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، وأن القوة الحقيقية تكمن في قبول المسؤولية مع الأمل.


📖 الفصل السابع عشر:

 اللقاء الحاسم

 

اقتربت اللحظة التي شعر بأنها ستغير مجرى حياته بالكامل. كانت الأصوات ترافقه كما اعتاد، تهمس له بنبرة حازمة:
"اليوم ستواجه اختبارًا أكبر من أي شيء مضى. عليك أن توازن بين قلبك ومسؤولياتك."

خرج في الصباح إلى المدينة، والهواء يعبق بالربيع، لكنه لم يشعر بالراحة المعتادة. كل خطوة يخطوها كانت مليئة بالترقب والخوف. وعند زاوية الطريق، رأى المرأة التي دخلت حياته قبل أسابيع، مبتسمة وكأنها تعرف كل شيء.

تقدم نحوها، وقال بصوت مرتجف:
"هناك شيء أريد أن أخبرك به..."

لكن قبل أن يواصل، شعر بشيء غريب، كما لو أن العالم من حوله صمت للحظة. الأصوات همست له:
"الآن، اختر بحكمة. قلبك يريد، لكن واجبك أكبر."

توقف، وأدرك أن هذه اللحظة ليست مجرد لقاء عادي، بل اختبار حقيقي لقدرة قلبه على التوازن بين الحب والمسؤولية. ابتسمت المرأة برقة، وكأنها تعرف معركته الداخلية، وقالت:
"لا تخف، أنا هنا لأفهمك، لا لأضيف عبء."

جلسا معًا على مقعد في الحديقة، يتحدثان عن كل شيء: عن الماضي، عن الأحلام، عن الخوف والمسؤولية. مع كل كلمة تقولها، شعر بأن قلبه يخفف من توتره، ومع كل لحظة صمت، تذكّره الأصوات بالواجب الذي يحمله.

في نهاية اللقاء، قال بصوتٍ ثابت:
"سأحميك كما أحمي من لم يولدوا بعد. سأكون هنا، لن أختار بين الحب والمسؤولية، سأحاول التوازن بينهما."

همس الصوت الأخير بتأكيد هادئ:
"لقد تجاوزت أول اختبار حقيقي. ما تعلمته اليوم سيكون مفتاحًا لكل تحدٍ قادم."

وغادر اللقاء وهو يشعر بثقل المسؤولية في قلبه، لكنه هذه المرة شعور أخف، مشبع بالأمل والحب معًا، مدركًا أن القوة الحقيقية تكمن في الجمع بينهما دون التضحية بأي جانب.

 

📖 الفصل الثامن عشر:

 الاختيار الصعب

 

جلس في غرفته تلك الليلة، يحدق في الظلام وكأن الإجابات ستظهر بين الظلال. قلبه يخفق بسرعة، وكل نبضة تحمل شعورًا بالرهبة والمصير. الأصوات التي أصبحت جزءًا من حياته همست بنبرة جدية:
"وصلت إلى لحظة القرار. لا يمكن التراجع، كل خطوة الآن ستحدد مصيرك."

تذكر اللقاء الأخير مع المرأة، شعور الحب الذي بدأ يزهر بداخله، لكن تذكر أيضًا المسؤوليات التي لم تولد بعد، الأرواح التي تعتمد على قراراته. كل خيار كان له ثقل لا يمكن تجاهله.

توقف للحظة، وأغمض عينيه، محاولًا سماع قلبه وعقله معًا. قال بصوتٍ منخفض لكنه حازم:
"لن أترك أي شيء، سأحاول حماية من أحب ومن يحتاج إلي."

بدأ يخطط، يتصور كل الاحتمالات، كيف يمكن أن يوازن بين حياته الشخصية ومسؤولياته الكبرى. كان يعلم أن التوازن لن يكون سهلاً، لكنه شعر للمرة الأولى بأنه قادر على اتخاذ القرار الصائب، مهما كانت النتائج صعبة.

وفي الصباح، عند أول شعاع للشمس، اتخذ قراره. اتصل بالمرأة، حدد موعدًا للقاء آخر، وقال لها بصراحة:
"أريد أن أكون معك، لكن عليّ أيضًا أن أحمي ما ليس من نصيبي بعد. سأحاول أن أوازن بين قلبينا وبين ما هو أهم."

ردت بابتسامة دافئة، وعيونها تحمل فهمًا وصبرًا:
"سأكون معك، مهما كانت التحديات. الثقة بيننا هي ما سيجعلنا أقوى."

همست الأصوات هذه المرة بنبرة رقيقة:
"لقد اخترت الشجاعة، لقد اخترت الحب والمسؤولية معًا. هذا الاختيار سيغير مجرى حياتك وحياتنا جميعًا."

جلس طويلًا، يشعر بثقل القرار، لكنه أيضًا بشعورٍ غريب بالارتياح. فهم أن الحياة ليست فقط عن اتخاذ القرارات السهلة، بل عن القدرة على مواجهة الصعاب، والحفاظ على الحب والواجب معًا دون التخلي عن أي منهما.
 

📖 الفصل التاسع عشر:

 العاصفة الكبرى

 

حلّ المساء، والرياح تعصف بالشوارع كما لو أن المدينة بأكملها تشارك في توتر قلبه. كانت الأصوات أكثر حضورًا، أكثر وضوحًا من أي وقت مضى:
"الآن ستواجه كل ما اخترت، كل ما بنيته، وكل ما تحاول حمايته. لا مجال للتراجع."

بدأت الأحداث تتوالى بسرعة. في عمله، مشكلة كبيرة هددت مشروعه بالكامل، وفي حياته الشخصية، المرأة التي أحبها واجهت موقفًا صعبًا اضطره للتدخل دون أن يضحي بمسؤولياته الكبرى. كل خيار أصبح اختبارًا مباشرًا لإرادته، كل قرار كان عليه أن يوازن بين القلب والعقل.

توقف للحظة، مستنشقًا الهواء العاصف، ثم قال بصوتٍ ثابت:
"لن أخسر أي جانب. سأواجه العاصفة بكل ما أملك."

بدأ يحل الأزمات بسرعة، يوجّه من حوله، يخطط لكل خطوة بعناية. وفي نفس الوقت، لم يترك مشاعره تجاه المرأة جانبًا، بل كان يتواصل معها بحذر وصدق، محاولًا أن يشعرها بالأمان حتى في خضم الفوضى.

وبينما كان الليل يشتد، حلّ صمت مفاجئ في المدينة، كأن العالم نفسه توقف ليستمع إلى خطواته. همست الأصوات بنبرة دافئة وهادئة:
"لقد تجاوزت أول مرحلة من العاصفة. القوة التي اكتسبتها اليوم ستقودك إلى النهاية."

جلس على مقعده في البيت، يشعر بالعرق يغطي جبينه من توتر اليوم، لكنه أيضًا شعر بنوع من الانتصار. لم يكن مجرد البقاء على قيد الحياة أو الحفاظ على الأمور كما هي، بل كان اكتشاف قوته الحقيقية: القدرة على الجمع بين الحب والمسؤولية، بين القلب والعقل، رغم كل الصعاب.

وفي تلك اللحظة، أدرك أن العاصفة لم تكن مجرد اختبار خارجي، بل اختبار داخلي. وأن كل خطوة خاضها اليوم كانت استعدادًا لما سيأتي في الفصل الأخير، حيث كل شيء سيتكشف ويأخذ شكله النهائي.
 

📖 الفصل العشرون والأخير:

 النور بعد الظلام

 

حل الصباح بعد ليلةٍ طويلة من العاصفة، والمدينة تبدو هادئة بشكل يبعث على الاطمئنان. جلس البطل في غرفته، مستنشقًا الهواء النقي، يشعر بأن كل ما مرّ به لم يكن عبثًا، وأن كل تجربة، كل فقد، كل اختيار، كان جزءًا من طريقه نحو النور.

جاءت الأصوات للمرة الأخيرة، بنبرة مليئة بالدفء والفخر:
"لقد أكملت رحلتك. كل خطوة، كل دمعة، كل لحظة حب ومسؤولية، صنعت منك الشخص الذي يجب أن تكونه."

ابتسم ببطء، وارتجف قلبه من شعور لا يمكن وصفه. لم يعد وحيدًا، ولم يعد غارقًا في الصراعات الداخلية. فهم أخيرًا أن الحياة ليست فقط عن تحمل المسؤولية أو خوض التحديات، بل عن القدرة على الجمع بين الحب والأمل والشجاعة.

خرج إلى المدينة، والشمس تتسلل عبر الأبنية، تلمس وجهه بحرارة لطيفة. في الطريق، التقى بالمرأة التي أحبها، ولم يكن اللقاء هذه المرة مجرد صدفة، بل شعور بالانسجام الكامل بين قلبه ومسؤولياته.
ابتسمت له وقالت:
"أرى النور في عينيك، لقد أصبحت أكثر قوة مما كنت تتصور."

جلسا معًا، يتحدثان عن المستقبل، عن المسؤوليات المشتركة، عن الحلم الذي بدأ مع الأصوات الغامضة، وأصبح الآن حقيقة ملموسة. شعر أن قلبه أصبح أقوى، وعقله أكثر وضوحًا، وأن كل ما مرّ به كان إعدادًا لهذه اللحظة.

وفي المنزل، جلس وحيدًا للحظة، مستمعًا إلى الأصوات التي طالما أرشدته:
"لقد تعلمت أن الحب ليس ضعفًا، وأن المسؤولية ليست عبئًا. أنت الآن نورنا بعد الظلام."

أغلق عينيه، وابتسم بسلام. كان يعرف أن الرحلة انتهت، لكنه أيضًا أدرك أنها كانت البداية الحقيقية لكل ما يمكن أن يقدمه في حياته، لكل الأمل الذي سينقله لمن حوله وللأرواح التي لم تولد بعد.

كان النور قد حلّ بعد الظلام، ومعه جاء شعور حقيقي بالسلام، القوة، والحب الذي يمكن أن يصنع فرقًا حقيقيًا في العالم.
 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

15

متابعهم

9

متابعهم

4

مقالات مشابة
-