حين التقينا على الرصيف

حين التقينا على الرصيف

0 المراجعات

حين التقينا على الرصيف

كان المساء يوشك أن يحل، والشمس تنسحب من السماء كأنها تخجل من البقاء، حين توقفت سلمى على رصيف محطة القطار. لم تكن تنتظر أحدًا، فقط تحب أن تراقب العابرين؛ وجوه غريبة لكنها تحكي ألف حكاية في لحظة. وبين زحام الوجوه، لمحته.

كان يحمل كتابًا مهترئ الصفحات، يمسكه بعناية كأنما يمسك قلبه. عيناه كانتا تبحثان عن شيء، أو ربما عن أحد. لمحته يقترب بخطوات مترددة، ثم فجأة توقفت قدماه أمامها.

"هل تعرفين أي قطار يتجه إلى القاهرة؟" سأل بصوت دافئ، فابتسمت وأشارت إلى الرصيف المقابل. لم يكن السؤال بريئًا تمامًا، ولم تكن الإجابة مجرد توجيه. كان هناك شيء في تلك اللحظة، كأن الزمن قرر أن يتباطأ ليمنحهما فرصة مريبة للتعارف.

جلسا على المقعد الخشبي، وبدأ الحديث يمتد. اسمه عمر، يدرس الهندسة ويكتب الشعر كهواية. اكتشفت سلمى أنها قرأت بعض كلماته على أحد المنتديات ولم تكن تعلم أنه الكاتب. ضحك حين أخبرته، وقال إن الشعر بالنسبة له نافذة على عالم أكثر هدوءًا من ضوضاء الحياة.

مر القطار الأول دون أن يركبه، ثم الثاني. وكأنهما اتفقا بلا كلمات على تأجيل رحيلهما قليلًا. تحدثا عن الكتب، والموسيقى، وعن المدن التي يحلمان بزيارتها. كان كل منهما يكتشف في الآخر تفاصيل لم يتوقع أن يجدها في غريب التقى به صدفة.

حين أعلن المذياع قدوم القطار الأخير إلى القاهرة، شعر كلاهما بثقل اللحظة. لم يرد أحدهما أن يقطع هذا الخيط الرفيع الذي بدأ يربط قلبيهما. مد عمر يده بورقة صغيرة، كتب عليها رقم هاتفه وجملة قصيرة: "أحيانًا، تُهدي لنا الحياة شخصًا على رصيف، ويكون هذا أجمل من كل الوجهات."

ابتسمت سلمى وهي تمسك الورقة، وقالت: "ربما نلتقي مجددًا... أو ربما كان هذا الوداع." رد بهدوء: "وأحيانًا، يكون الوداع بداية الحكاية."

تحرك القطار، ورحل عمر، لكن عينيه ظلتا معلقتين بنظرتها حتى اختفى المشهد. وفي يدها، كانت الورقة الصغيرة ترتجف قليلًا، كأنها تدرك أنها تحمل بداية قصة… لا يعرفان بعد كيف ستكتمل.

ومنذ ذلك اليوم، صارت المحطة بالنسبة لسلمى ليست مجرد مكان للعبور، بل رصيفًا شهد ولادة شعور قد يتفتح يومًا، أو يبقى ذكرى دافئة تتحدى برد الأيام.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

0

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة