
رحلة سفينة الهيليوس
أسطورة تولد من الأعماق
في قلب المحيط الهادئ، حيث يمتزج الليل بالماء، وحيث لا يسمع الإنسان إلا نبض البحر، وُلدت أسطورة الحوت المسكون.
يتحدث البحارة القدامى عن مخلوقٍ عملاقٍ يعيش في ظلال الموج، لا يُرى إلا نادرًا، لكنه يُسمَع دائمًا. قالوا إنه ليس مجرد حوت، بل روح البحر نفسها، حارس الأسرار القديمة، والمأوى الأخير للأرواح التائهة.
الأسطورة تقول إن كل من يقترب من منطقته يسمع أنين الأرواح الغارقة، ويُصاب بالجنون قبل أن يختفي في أعماق لا عودة منها.

رحلة الهيليوس
في عام 1469 انطلقت سفينة الأبحاث "الهيليوس" من ميناء أوكلاند متجهة نحو منطقة مجهولة في المحيط.
كان يقودها الكابتن عِمران السعدي، رجل صارم لا يؤمن بالأساطير. هدفه كان علميًا بحتًا: دراسة الأصوات الغامضة التي التقطتها الأقمار الصناعية في تلك الأعماق.
تألف الطاقم من عشرة علماء وبحّارة، كلٌّ منهم يحمل في قلبه خليطًا من الفضول والخوف. كانت الأجهزة تلتقط ترددات منخفضة، تشبه نبضات قلبٍ عملاق تحت الماء. وكلما اقتربوا من المصدر، ازدادت الترددات وضوحًا... حتى بدت كأنها كلمات بشرية تُهمس من الأعماق.

الاقتراب من المجهول
في الليلة الخامسة من الرحلة، غطّى الضباب البحر كوشاحٍ من الرماد.
النجوم اختفت، والبحر أصبح مرآةً سوداء لا قرار لها. ساد الصمت إلا من صوت الموج الخافت وضجيج الأجهزة.
فجأة، سُمع صوتٌ عميق يهزّ السفينة، كأنه أنين كوكبٍ يحتضر. هرع الجميع إلى غرفة المراقبة، وهناك ظهرت الصورة على الشاشة: عين ضخمة تنظر إليهم من وراء الظلام، تتحرك ببطءٍ وكأنها تقرأ وجوههم واحدًا واحدًا.
تجمّد الدم في عروق الطاقم، وصاح أحد العلماء:
> “يا إلهي... هذا ليس حوتًا عادياً!”
قبل أن يتمكن أحد من التحرك، انفتح البحر فجأة، وارتفع جدار من الماء، وظهر فمٌ هائلٌ كالبوابة، يبتلع الضوء والهواء وكل ما يقترب منه.
انقطعت الكهرباء، وغرقت السفينة في عتمةٍ مطلقة.

الأصوات القادمة من الداخل
استيقظ الكابتن عمران بعد دقائق من الصدمة ليجد نفسه في ضوءٍ أزرق غريب.
كان ما حوله يبدو كجوف مخلوقٍ ضخم، جدرانه تنبض بالحياة. سمع أصواتاً تتحدث بلغاتٍ قديمة، وأخرى تهمس باسمه.
من بعيد، شاهد أفراد طاقمه يسيرون نحو ضوءٍ بعيدٍ دون وعي، وكأن شيئًا يجذبهم.
اقترب أكثر، فوجد أجسادًا بشرية نصف شفافة تسبح في الهواء، تتنقل بين الجدران المائية كأطيافٍ بلا وزن.
أحدها اقترب منه وقال بصوتٍ خافتٍ:
> “نحن من حاولنا أن نفهم البحر... فابتلعنا كي نصبح جزءًا منه.”
أدرك عمران حينها أن هذا الحوت ليس مجرد مخلوق، بل بوابة الأرواح، يجمع كل من مات في البحر، ويحتفظ بهم في ذاكرته الأبدية.

اللعنة تتكلم
كتب الكابتن آخر كلماته في دفتره وهو يرتجف:
> “إن البحر ليس ماؤه فقط... بل ذاكرته. الحوت المسكون هو قلبه النابض، ومن يسمع نداؤه لن يعود أبدًا كما كان.”
بعدها، بدأ كل شيء ينهار. الموج ارتفع، والأصوات تحولت إلى صراخٍ جماعي، والظلام ابتلع كل ما تبقى من السفينة.

النهاية المفتوحة
بعد أسبوع، عثرت فرق الإنقاذ على سفينة الهيليوس طافية في عرض البحر، خالية تمامًا من البشر.
في غرفة القيادة، وُجد دفترٌ مبلل يحمل توقيع الكابتن عمران، وآخر صفحة تقول:
> “لقد سمعناه... إنه يراقب البحر من الداخل.”
ومنذ ذلك الحين، أصبح الصيادون يتحدثون عن ليالٍ يسمعون فيها أنينًا عميقًا يخرج من الأعماق، يشبه صوت إنسانٍ يطلب النجدة.
يقولون إن من يصغي إليه طويلًا... يسمع في النهاية اسمه يُنادى من البحر.

الخاتمة
الحوت المسكون ليس مجرد أسطورة، بل رمزٌ للخوف الأزلي من المجهول، ولرغبة الإنسان في تجاوز حدوده حتى لو كلّفه ذلك روحه.
في أعماق البحر أسرار لا تُروى، وأصوات لا يسمعها إلا من اقترب أكثر مما يجب.