حين تأخّر اللقاء

حين تأخّر اللقاء

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات
image about حين تأخّر اللقاء

🩵 الجزء الأول: حين تأخّر اللقاء

لم تكن "ليلى" تؤمن بالصدف، كانت تكره تلك الفكرة التي تجعل كل ما يمرّ بنا مجرد حظٍ عابر أو حدثٍ بلا معنى.
كانت ترى أن كل شيء مقدّر ومكتوب، حتى تلك اللحظات الصغيرة التي تبدو بلا قيمة… تحمل في داخلها خيطًا غير مرئي يربطها بشيء أكبر منها.

في ذلك اليوم الرمادي، حين تأخر القطار عن موعده المعتاد، جلست على المقعد الخشبي بمحطة القطار القديمة في أطراف المدينة، تتابع بعينيها دخان الباعة المتجولين وهم ينادون على الشاي والسميط.
كانت السماء ملبدة بالغيوم، ورائحة المطر تملأ الهواء. أخرجت كتابها المفضل من حقيبتها، لكنها لم تستطع التركيز، فذهنها كان مثقلًا بأفكارٍ كثيرة: العمل، والدراسة المسائية، وشعور الوحدة الذي يرافقها منذ سنوات.

بينما كانت تقلب الصفحات بلا اهتمام، اقترب شاب في أواخر العشرينات، يحمل كتابًا مماثلًا تقريبًا، وجلس على المقعد المقابل.
لم يبدُ مختلفًا عن الآخرين في شيء، سوى في نظراته الهادئة التي كانت تشبه طمأنينة المساء.
قال بصوتٍ خافت:
ـ هل القطار إلى العاصمة تأخر كثيرًا؟

أجابت بابتسامة بسيطة:
ـ كما يبدو… أكثر من ساعة.

ابتسم هو الآخر وقال:
ـ هذا يمنحنا فرصة للحديث على الأقل، بدلاً من النظر إلى الساعة كل دقيقة.

ضحكت ليلى بخفوت، وشعرت بشيءٍ من الألفة الغريبة معه. كان يحمل كتاب "الخيميائي" لباولو كويلو، نفس الكتاب الذي كانت تقرأه هي من قبل بأسابيع.
ومن هنا بدأ الحديث بينهما، عن الحلم والقدر، وعن السفر بحثًا عن الذات، وعن تلك الجملة التي قالتها ليلى وكأنها موجهة إليه:
ـ أحيانًا لا نبحث عن شيء، لكن القدر يضع أمامنا ما كنا نهرب منه.

نظر إليها طويلاً قبل أن يجيب:
ـ ربما نحن لا نهرب، بل نؤجل اللقاء حتى ننضج كفاية لنفهمه.

صمتت لبرهة، والهواء من حولهما بدأ يبرد أكثر. كان في كلماته عمقٌ لم تعهده في حواراتٍ عابرة.
عرفت أنه يُدعى "عُمر"، يعمل مهندسًا ويعيش في العاصمة منذ خمس سنوات، وقد عاد إلى قريته الصغيرة لزيارة والدته المريضة.
حكى عن وحدته في الغربة، وعن المدن التي تمتصّك ثم تتركك فارغًا حين تعود.

قالت ليلى بخفوت:
ـ الغربة لا تكون في المكان فقط، أحيانًا تكون داخلنا.

هز رأسه موافقًا، ثم نظر إليها نظرةً لم تستطع تفسيرها، لكنها شعرت بها تسكن قلبها دون إذن.
مرّت الدقائق سريعًا، حتى سُمع صوت القطار القادم يقترب من بعيد، فنهض كلاهما وكأنهما لا يريدان أن تنتهي تلك اللحظة.

على رصيف القطار، كانت العيون تتكلم أكثر من الكلمات. لم يتبادلا أرقامًا، لم يتعاهدا على لقاءٍ جديد، فقط نظرة طويلة، وابتسامة صامتة كأنها وعد غير منطوق.

ركبت ليلى القطار وجلست قرب النافذة، وبعد لحظات لحق بها عمر وجلس في العربة نفسها، لكن بعيدًا عنها.
كانت بينهما مقاعد فارغة كثيرة، لكنها لم تمنع العيون من الالتقاء كلما مرّ الضوء بين الأنفاق.

حين وصل القطار إلى محطته الأخيرة، كانت السماء تمطر بخفة، فرفعت ليلى يدها تشعر بقطرات المطر على كفّها، وقالت في نفسها بابتسامةٍ حزينة:
ـ ربما لم تكن صدفة بعد كل هذا…

ثم اختفى عُمر بين الزحام، تاركًا وراءه شيئًا في قلبها لم تفهمه بعد، لكنه جعلها تدرك أن بعض اللقاءات قد تتأخر، لكنها حين تأتي… تغيّرنا للأبد.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

2

متابعهم

1

متابعهم

2

مقالات مشابة
-