زينب… العائدة من الترعة
زينب… العائدة من الترعة

في واحدة من قرى الريف الهادية كانت زينب، البنت الهادية اللي ليها تلات إخوات: حسين، سامح، ولبنى. في يوم حر من أيام الصيف خرجت زينب على الترعة عشان تغسل الهدوم، وآخر مرة اتشافت فيها كانت واقفة عند الميّة والشمس مغربّلة وشها. بعدها اختفت حرفيًا كإن الأرض بلعتها، إخواتها بلغوا الشرطة، والقرية اتقلبت عليها لحد ما عدّى شهرين كاملين من البحث، وفجأة صيّاد لقى جثة طافية عند حافة الترعة… جثة نصّها متاكل، ووشها مافيهوش ملامح، مجرد كتلة مسودة مش واضحة. الشرطة طلبت إخواتها يتعرفوا عليها، وكلهم انهاروا لما شافوا ضفيرتها الطويلة وإسوارتها اللي كانت دايمًا في إيدها، واتأكدوا إنها زينب. اتدفنت في هدوء والكل كان فاكر إن الكابوس خلص… لكن لأ. بعد دفنها بخمس سنين، أخوها الكبير حسين مات فجأة من غير سبب، كانوا بيقولوا إنه اتخنق وهو نايم بس محدش فهم إيه اللي حصل فعلاً. مرت تلات سنين بعد موته، وفي ليلة بردها جامد، جار زينب، عم فايد، سمع صوت حاجة بتخربش على حيطته الجنبية، وصوت خطوات جايّة من بيت زينب المقفول بقاله سنين. افتكر إن فيه حرامي أو قطة داخلة، قرب من البيت، وسمع نفس الصوت تاني… همسات، وصوت حد بيتنفس بعمق، وصوت قماش بيجرّ على الأرض. فتح الباب بالعافية… ولما دخل الظلمة كانت تقيلة، ريحة تراب وطين قديم، وفجأة شافها… زينب. واقفة في نص الصالة، وشها اللي اتاكل زمان متخيط بحبال سوده كأن حد حاول يرجّع ملامحها بالغصب، واللي مرعب أكتر إنها كانت شايلة كفنها على كتفها، وبتسحبه وراها كأنه ديل. الأرض كان فيها ميّة ساقعة بتتساقط من شعرها، وهدومها لازقة في جسمها، ومن بوقها نازل طين، وبتقول بصوت مخنوق: “رجّعولي الباقيين… واحد ورا واحد… زي ما خدتوه مني.” وقبل ما عم فايد يلحق يصرخ، النور قطع، والصوت الوحيد اللي اتسمع كان صوت سحب الكفن على البلاط… وبعدها اختفى عم فايد للأبد، والبيت اتقفل تاني، والناس لحد النهارده بتقول إن زينب ما رجعتش لوحدها… وإن الدور جاّي على اللي لسه ما ادفنوش.
بعد اللي حصل لعم فايد، القرية كلها اتشلت رعب، والبيت بتاع زينب محدش بقى يقرب ناحيته، لكن الغريب إن في كل ليلة جمعة الناس كانت بتسمع صوت كفن بيجرّ على الأرض جوه البيت، وصوت خبطات على الشبابيك كإن حد عايز يخرج… أو يدخل. بعد أيام قليلة، بدأت حالات موت غريبة تحصل: لبنى أخت زينب اتلقت ميّتة في أوضتها، وعنيها مفتوحة على الآخر وكأنها شافت حاجة قطعت نفسها من الرعب، وعلى الحيطة جنب سريرها كان مرسوم بإصبع مبلول بالطين كلمة واحدة: “الدور”. بعدها بيومين سامح اتلقى
مرمي على عتبة البيت وضلوعه مكسّرة كأن قوة غير بشرية دعسته، وكل اللي سبته القوة دي وراه كان أثر مية زي مية الترعة… بس سودا. في الليلتين دول، الشهود قالوا إنهم شافوا ست ماشية في الشارع نصها غرقان مية، وشايلة كفن متسخ، ومن غير وش… مجرد حفرة سودا محل الملامح. الشرطة قررت تقتحم البيت بعد تلات بلاغات عن صراخ جوّاه. أول ما دخلوا، كان الهواء واقف، وريحة كمون ني وميّة راكدة مالية المكان. الأرض كلها آثار أرجل مجروحة، وكأن حد بيرقص وهو مكسّر. فجأة الباب اتقفل لوحده، والنور
اتطفى، والظباط سمعوا صوت ضحكة ست جاية من السقف. رفعوا الكشافات… ولَقوها: زينب، معلّقة من شعرها، راسها ملفوفة بشاش مقطّع، وإيدين سودة طويلة بتتحرّك لوحدها حوالين جسمها، وفجأة الكفن اللي كانت شايلاه اتحرك كأنه حيّ، وفتح نفسه، وخرجت منه “رقاب” سودا طويلة بتجري على الحيطان وتلف حوالين الظباط. واحد منهم اترفع في الهواء واترمى للحيطة، والتاني اتشوه وشه كأن حد خربشه بمية نار، والتالت سمع صوت في ودنه بيقول: “لسا الباقي… لسا واحد ناقص.” قبل ما يقع ميت. آخر ظابط جري ناحية الباب، لكن الترعة اللي برا البيت… ظهرت قدّامه جوّه الأرض، ترعة كاملة جوّا البيت! ميّة سودة بتغلي، وطلع منها
إيدين، إيدين كتير… إيدين أطفال وبنات وولاد، كلهم اللي غرقوا في الترعة على مدار سنين القرية، بيجرّوه ناحية الميّة وهما يقولوا بصوت واحد: “رجّعونا.” البيت كله بدأ يهتز، والزعيق علي صوت انفجارات في الحيطان، وصور قديمة لزينب وهي طفلة بتتحرق وتولّع لوحدها. بعدها… صمت. لما الشرطة المسندة وصلت، لقوا البيت فاضي… من غير ظابط واحد. لقوا بس الكفن مفتوح في نص الأرض، وميّة الترعة ماشية عليه… ولما بصوا على الحيطان لقوا مكتوب بالطين والدم: “لسه الدور على التالت.” ومن اليوم ده… اتقال إن الليلة اللي المطر بينزل فيها بقعة سودا كبيرة بتظهر مكان البيت… ووش ست مش مفهوم بيطلع من الضلمة، شايل كفنها، وبتعدّ على بيوت القرية… بيت بيت.
بعد ما القرية اتقلبت وبيوت كتير اتحولت لمقابر صامتة بسبب ظهور زينب، كل الناس بقت تعيش في خوف، محدش يفتح باب بعد المغرب، ومحدش يقرب ناحيت الترعة اللي بقت الميّة فيها سودا زي الزيت. في ليلة هادية أكتر من اللازم، الجو وقف، ولا كلب نبح، ولا
حتى هوا اتحرك، وكأن العالم بيستعد لحاجة كبيرة… حاجة أخطر من ظهور زينب نفسها. فجأة، جامع القرية اتفتح بصرخة باب، والشيخ مصطفى—اللي كان أكتر واحد مؤمن إن اللي بيحصل ده “مش روح زينب الاصلية”—دخل بعصاية طويلة وكتاب قديم متغطي بقطع قماش أحمر. قال بصوت مرعوب للناس اللي تبعته: “زينب مش اللي بتقتل… زينب محبوسة… واللي ماسك جسمها ده جني من قديم الزمان.” قربوا من بيت زينب اللي الأرض حواليه بقت مليانة آثار أقدام ميّة طين. الباب فتح لوحده، وطلع منه صوت سحب كفن على الأرض كأن حد بيستعد يخرج. الشيخ دخل، والناس وراه، والظلمة جوا البيت كانت مش طبيعية… كانت عاملة زي بطن بئر عميق
مفيهوش نهاية. وفجأة، في نص الصالة… ظهرت زينب. جسمها مهزوم، كأنها مخنوقة، وشعرها مبلول وملزق على ضهرها، والكفن ملفوف حواليها بإحكام كأنه سلاسل. لكن المرعب إن في “ظل تاني” واقف وراها… أطول منها، وأعرض منها، ومابيظهرش منه غير عينين سودا… سودا لدرجة إن اللي يبص فيها يحس إنه بيقع. الجني بدأ يتكلم من بطن زينب، صوت خربان بيشق القلب: “هي مش بتاعاكم… دي بتاعتي.” وفجأة الأرض اتفتحت تحتهم، وطلع منها دخان أسود بيلف في شكل دوامة، وبدأ يشد الناس واحد ورا التاني زي ما الترعة كانت بتسحب الغرقى. الصريخ كان مالي المكان، والزعيق طالع من كل ناحية، والجثث بتترفع وتترمي في الضلمة زي ورق خفيف. الشيخ وقف في النص، مسك الكتاب وفتحه، نور أبيض خرج منه وملأ البيت كله، وصرخ بأعلى صوته: “ارجعي يا زينب! ارجعي مكانك!” فجأة زينب صرخت صرخة يشيب لها الولدان، والجني اتفصل عنها زي دخان بيفك نفسه، وبدأ يصوّت بصوت مش بشري، ويمد إيديه الطويلة السودا ناحية الشيخ… بس النور كان أقوى. الجني ولع، ودخان أسود طار في السقف وخرج من فتحة صغيرة، واختفى كأنه عمره ما كان موجود. البيت وقع على الأرض فجأة… بس من غير ما يأذي حد. السقف نزل، والجدران انهارت، وكل حاجة اتحولت تراب… إلا زينب. كانت واقفة، لابسة فستان أبيض بسيط، ووشها راجع زي الأول… وش طبيعي، هادي، من غير جروح، من غير سواد… وبصت للشيخ وقالت بصوت طفلة: “أنا كنت بعيت… محدش سمعني.” وبعدها بصت للسماء، ابتسمت ابتسامة صغيرة، واختفت… مش ماتت… اختفت زي ريحة بتطير. بعدها بيوم كامل، الميّة في الترعة رجعت صافية زي زمان، والأصوات اختفت، والرعب اتقفل مع انهيار البيت. والأغرب؟ إن في طفل صغير كان بيلعب على حافة الترعة تاني يوم الصبح… وقال إنه شاف بنت حلوة ضفيرتها طويلة، بتضحك له، وتقول: “متخافش… أنا ارتحت.” ومن اليوم ده… القرية كلها بقت بتحكي نفس الجملة: “زينب أخيرًا نامت.”