تبوح لي بشكل خفي ولكن...
تبوح لي بشكل خفي ولكن…
وسوست النفس لضرس من أضراسي ليقض مضجعي، وكان بالفك العلوي ما قبل ضرس الرشد/العقل جهة اليمين. كان به خلل يكلفني نهارا أن أزيل بقايا الطعام بعيد كل وجبة مهما كانت طبيعتها، ويكلفني الليل بعض الوجع. ولأني شخصية حساسة جدا، آثرت أن أزور طبيبَ أسنان رغم أني لم أعتد زيارة الأطباء بحكم نظام غذائي صارم حتى النخاع.
وفي أحد أيام إجازة قصيرة، قصدتُ عيادة طب أسنان، واستقبلتني بمكتب الاستقبال سيدة طويلة القامة، سمراء البشرة، سألتها عن تكلفة حشو الأضراس، وغيرها من أمور يسأل عنها كل واحد مثلي إذا وجد نفسه هناك. ثم وافقت، وولجت غرفة الانتظار.
جاء دوري في ولوج غرفة جراحة الأسنان، ورحب بي طبيبٌ بشوش، بدين، وقارب السمنة، تبسم لي وقلت في قرارة نفسي: ربما أنا في المكان المناسب.
فحص الطبيب ضرسي، فشرع في تطبيبه، وقد ساعدته شابةٌ، قصيرة القامة، حسناءُ ناعمة، لا هي سمينة ولا هي نحيفة، ذات ثغر قصير. تعمل في هدوء، ولا تفارق الابتسامة محياها. وكم كانت عبارتي ذات وقع في نفسها، أقولها كلما بصقت في المكان المخصص بعد تخدير موضعي من لدن الطبيب: "شرَّف اللهُ قدركِ". عبارة أقولها بالعامية بصوت ينم عن تقدير المقام وأهله، وكلما سمعَتها أدْرَكَتْ أنها أمام إنسان مهذب لطيف.
وقد كررت الموقف مرات عدة بحكم حصص عدة في المتابعة الطبية هناك. تلك هي العبارة التي قادت إلى اهتمامٍ لم أفسر سره بعدُ. وقد انتهت عملية حشو الضرس بنجاح، وبما أن العيادة جلبت لي بعض الارتياح فقد فكرت في تركيبة متحركة أعبئ موضع ضرس آخر سبق لي نزعه. وضربَ لي موعد لأخذ مقاسات الفم، وحضرت لما حل موعدي، واستقبلتني الشابة نفسُها، وقامت بأخذ مقاسات الفم لتعويض الضرس المنزوعة، وكشف لي حدسي أن الشابةَ انشرح قلبُها أكثر من قيامها بعمليات بسيطة وهي تمد يديها مباشرة لفمي، وتدخل قطع المقاسات بلين ومعاملة لن يعاملك إلا من يكن لك حبا، كما كشفتُ أنها تمنتْ لو عوضتُ كثيرا من أضراسي بتركيبات متحركة حتى أرتاد العيادة لأخذ المقاسات!
كانت بالعيادة طبيبة أخرى هي مالكتها، وكانت لها مساعدة أكبر سنا من الشابة المهتمة التي تساعد الطبيب الذي أتابع معه العلاج. وبما أن العيادة قريبة من مقر عملي، فقد كنت ألتقي بالمساعدتين معا كل زوال ومعهما الكاتبة، وفي كثير من الأحيان لا أتفطن إلى مرورهما حتى تناديني مساعدة الطبيبة: أستاذ، بخير؟ وألتف فأراهن، وأكتشف أنها نبهتهن بمروري، وأكتشف كذلك أن ثمة اهتماما خاصا صاحبه مساعدة الطبيب وأنا معني به.
مرت مدة دامت بضعة أشهر، وبان في الضرس المحشو خللٌ ففكرت في إعادة حشوه، واتصلت بالعيادة ذاتِها، وضُرب لي موعدٌ، وحضرت بحلوله، وكشفتُ أن تعامل الكاتبة اعتراه تبدلٌ، فقلت إني قد أكون موضوع حوار يدور دوما في الكواليس، كما قد أكون موضوع صراع خفي بين الكاتبة ومساعدة الطبيب.
دخلت هذ المرة، ووجدت طبيبا آخر، ورحب بي هو الآخر كما رحب بي سابقُه، وكم كنت سعيدا لأن الشابة وجدتها هي نفسها. ودامت حصص حشو تلك الضرس من جديد ثلاث حصص، وقد بدا لي خلالها أن الشابة تهتم أكثر فأكثر، وحين تناديني: أستاذ، وأنا قاعد بغرفة الانتظار حتى يأتي دوري، أراها تتبسم ويعتريها فرحٌ لم أكشف دافعه، كما لا تفارق الابتسامةُ محياها، ولأني من محبي الأناقة الكلاسيكية أجد عينيها تقعان على مقبض حزام سروالي، كما تلزمها الحيوية والنشاط من ولوجي غرفة الجراحة إلى حين مغادرتها، وكم كانت أرنبة أنفها الصغيرة وعيناها الجميلتان تنسيني طول مدة الجراحة في بعض الحصص، كما تنسيني الأوجاع الخفيفة خلالها.
عولجَ الضرسُ بإتقان هذه المرة، وشكرت الدكتور والمساعدة الجميلة المشوشة على السواء، وبذلك تنتهي حصص العلاج. وبحكم طيبوبة الدكتور السابق الذي ابتسم له الحظ ففتح عيادته الخاصة، كنت أكاتبه بين الفينة والأخرى للسؤال عن أحواله، وفكرت في سؤاله عن الوضعية العائلية للمساعدة: أعزباء هي أم متزوجة؟ لكني أخشى أن يهمل سؤالي، فآثرت السكوت والتأمل. كما فكرت في مراسلة الكاتبة للسؤال ذاتِه لكني أخشى أن يكون السؤال شرارة صراع بالعيادة، وآثرت السكوت من جديد.
كانت المساعدة على علم بأني شخص متزوج، ولكن اهتمامها الغامض يحمل من التأويل الشيء الكثير. فلا أنا على علم بما يدور في خاطرها، ولا هي وجدت الفرصة المناسبة لمفاتحتي في دافع اهتمامها الزائد. لقد اكتفت بالبوح الخفي، ومنذ ذلك اليوم بقي قلبي مفعما واجفا بهموم ولا يزال كذلك. لقد عولجت الأسنان واضطرب القلب!