همس القمه الجزء الاول

همس القمه الجزء الاول

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

ميلاد الحلم

كانت الليالي في القرية غارقة في الصمت، لا شيء يكسر سكونها سوى نباح الكلاب وصوت الريح وهي تضرب جدران البيوت الطينية. في هذه العزلة، نشأ "آرين"؛ شاب يختلف عن الجميع بعينيه اللتين كانتا تبحثان عن شيء أبعد من الحقول الضيقة والسماء الرمادية. لم يكن يعرف بالضبط ما الذي يريد، لكنه كان متيقنًا من شيء واحد: أنه خُلق ليصعد، لا ليبقى حيث وُلد.

في كل صباح، كان ينظر إلى الجبل المهيب الذي يبتلع الأفق، يقال إن القمة هناك تلامس السماء، ومن يجرؤ على بلوغها يرى العالم كله تحت قدميه. حكى له أحد الشيوخ أن كل من حاول الوصول إليها لم يعد، وأن الرياح هناك ليست ريحًا عادية بل أرواحًا غاضبة تحرس الطريق. لكن تلك الحالحكاياتالحالحكاياتكاياتكايات لم تكن تخيفه، بل كانت توقظ في داخله نارًا لا تنطفئ.

ليلة من ليالي الشتاء، عندما أطفأ القمر نوره خلف الغيوم، سمع "آرين" همسًا غريبًا. كان الصوت خافتًا، لكنه اخترق أعماقه: “اصعد، فالقاع ليس مكانك.”

ارتعش جسده، لكنه شعر في الوقت نفسه بسلام غريب. عرف أن هذه اللحظة لم تكن مجرد حلم، بل بداية طريق لا عودة منه. حمل حقيبة بالية وضع فيها كسرة خبز، بعض الماء، وسكين قديم ورثه عن أبيه، ثم غادر البيت دون أن يلتفت خلفه.

بدأت الرحلة شاقة، الطريق مغطى بالثلج والبرد قارس. بعد أيام من السير، أصابته الحمى وسقط منهكًا على الأرض. في تلك اللحظة، رأى غرابًا يقف فوق صخرة قريبة يحدق فيه. حاول أن ينهض لكنه لم يستطع، والغريب أن الغراب اقترب أكثر، ثم ارتفع في السماء وهو يصدر صوتًا حادًا، كأنه يأمره باللحاق. شعر "آرين" أن الطائر ليس عاديًا، وأنه دليل أرسله القدر. استجمع ما بقي من قواه، ونهض يتعثر وراءه.

كل خطوة كانت تختبر إرادته. الصخور الحادة مزقت قدميه، والبرد كاد أن يجمّد أنفاسه. لكنه كان كلما فكر في الاستسلام، يتذكر الهمس الذي سمعه: “القاع ليس مكانك.”

مرت الأيام والأسابيع، وعرف أن الرحلة ليست مجرد صعود جبل، بل معركة مع نفسه، مع خوفه وضعفه ورغبته في الراحة.

في أحد الليالي، حين توقف ليستريح بجوار وادٍ ضيق، سمع وقع خطوات خلفه. استدار بسرعة ليمسك بسكينه، فإذا بشاب غريب في مثل عمره تقريبًا، يحمل قوسًا على ظهره. نظر إليه الغريب بابتسامة وقال:

– “أنت لست وحدك في هذه الرحلة، كل من يحلم بالقمة يسلك هذا الطريق.”

لم يفهم "آرين" قصده، لكن عيني الشاب كانتا تعكسان صدقًا عجيبًا. جلسا معًا حول نار صغيرة، وروى له الغريب عن أساطير القمة، عن الأرواح التي تختبر القلوب، عن الوهم الكبير الذي قد يبتلع الطامحين. لكن "آرين" لم يتراجع، بالعكس، بدا كأن كلامه يزيده إصرارًا.

مرت الأيام وهما يتسلقان معًا. كان الغريب يعرف طرقًا خفية بين الصخور، ينقذه من الانهيارات الثلجية، ويشاركه الخبز القليل الذي يملكانه. لكن كلما اقتربا من الأعلى، شعر "آرين" أن هناك شيئًا غامضًا يحيط بصاحبه. عيناه أحيانًا تعكس ظلًا ليس له، وصوته في بعض اللحظات يبدو كأنه صدى قديم لا يخص البشر.

وفي ليلة عاصفة، عندما كانت الريح تعوي كذئاب جائعة، استدار الغريب إليه وقال بنبرة باردة:

– “لقد وصلت إلى النقطة التي يجب أن تختار فيها، إما أن تكمل وحدك، أو أن تعود أدراجك.”

تجمد "آرين" مكانه، ارتبك، شعر كأن الطريق الذي أمامه ليس مجرد صعود بل مواجهة قدرية مع شيء أكبر من فهمه. أدرك أن القمة ليست مكانًا يطأه الجميع، بل ساحة لا يصلها إلا من كان مستعدًا لفقد كل شيء، حتى نفسه.

نظر إلى الأعلى، حيث كان الضباب يختبئ خلفه نور غامض، كأنه بوابة السماء. كان قلبه يخفق بعنف، لكنه خطا خطوة للأمام، متحديًا الرياح والغموض والظل الذي كان يسير بجانبه.

وهنا، بدأ الجزء الحقيقي من رحلته…

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-