بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الثاني

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الثاني

0 المراجعات

الكرسي 


لم أر من قبل مثل ذاك الكم من الميدعات البيضاء في غرفتي الصغيرة. الممرضات، و مساعدو التمريض، و أخصائي العلاج
الطبيعي، و أخصائي تقويم الأعضاء، و طبيب الأعصاب، و الأطباء الداخليون و حتى رئيس القسم، المستشفى بأسره هب للمناسبة.

 لما دخلوا دافعين الكرسي المتحرك حتى سريري، خلتُ في البداية أن مستأجراً جاء لاحتلال المكان، إذ منذ أقمت في «بارك» قبل عدة أسابيع و أنا أتقدم نحو سواحل الوعي يوما بعد يوم، و مع ذلك لم أتمثل بعد الرابط الممكن وجوده بيني وبين كرسي متحرك.


لا أحد رسم لي صورة تامة لحالتي، و من خلال الأقاويل الملتقطة من هنا و هناك، نحتُ لنفسي يقيناً بأنني لن ألبث أن أعود سريعاً
للحركة و الكلام، بل إن روحي الجامحة هيأت ألف مشروع:

 رواية، رحلات، و مسرحية إلى جانب تسويق خلطة غلال من اختراعي، و لا تطلبوا مني تفاصيلها فقد نسيتها.
ألبسوني طقماً جديداً على الفور. «هذا جيد للمعنويات» أوضح طبيب الأعصاب.

بعد ثوب النوم الأخضر المصنوع من النايلون،
استمتعت بارتداء قميص ذي مربعات و سروال قديم و صدار، يشي منظرها بكابوس ارتدائها، أو بالأحرى كابوس احتوائها العسير لهذا الجسد الغض و المهتوك، والمليء بالتشوهات، جسد لم يلازمني إلا ليذيقني الألم.


ما إن جهزت حتى انطلقت الطقوس، حملني شخصان من كتفي و قدمي، رفعاني عن السرير، ثم وضعاني على الكرسي دونها فائق
حرص.

و هكذا بعد أن كنت مجرد مريض، صرت معوقاً، تماما مثل ما يحصل في مصارعة الثيران حين يتحول المصارع المبتدئ، باجتيازه
للإختبار، إلى مصارع متمرس.

حسنا لا أحد من «عّرابيَّ» صفق لي و لكنهما أخذاني في جولة عبر أروقة الطابق كي يتثبّتوا من أن وضعية جلوسي لن تتسبب في تشنجات تصعب السيطرة عليها، لكنني بقيت
هامداً، مشغولاً بإجراء تقييم صارم لآفاقي المستقبلية.

فلم يجدا من حل غير إسناد رأسي بوسادة خاصة، لأنني ببساطة كنتُ قد تركته يتدلى بطريقة تشبه ما يحدث للنسوة الإفريقيات حين تنزع عنهن حلق إطالة العنق بعد أن وضعنها لسنوات.

«جلوسك على الكرسي جيد»
علق أخصائي تقويم الأعضاء مبتسماً في محاولة لإضفاء طابع البشارة على كلماته، و مع ذلك كانت النبرة التي بلغت أذني نبرة إلقاء حكم غير قابل للطعن، و للحظة كشفت الحقيقة المرعبة عن وجهها دفعة واحدة، و إذا بها أسطع من انفجار ذري، و أحدّ من شفرة مقصلة.

تفرق الجميع، و أعادني ثلاثة ممرضين إلى وضعية الاستلقاء، كنت منشغلاً برجال العصابات في الأفلام السوداء، أولئك الذين
يشقيهم إدخال جثة غريمهم في صناديق سياراتهم في حين أنهم كانوا قبل ذلك بقليل بصدد ثقب جلده.

ترك الكرسي عند الركن بإهمال، ومثله ملابسي المرمية فوق ملف بلاستيكي أزرق غامق. قبل أن تخرج آخر ميدعة بيضاء، أشرتُ إليها بلطف أن تشعل التلفاز لأتابع برنامج «حروف وأرقام»، البرنامج المفضل لأبي.

في الخارج كان المطر الذي بدأ يهطل منذ الصباح يواصل النقر على زجاج النافذة.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
اسلام ابراهيم
المستخدم أخفى الأرباح

المقالات

460

متابعين

611

متابعهم

115

مقالات مشابة