
"بيت الصمت… حيث تبتلعك الساعات"
بيت الصمت… حيث تبتلعك الساعات
في طرف المدينة، بين أشجار ملتوية وكأنها تحاول الهرب من الأرض، يقف منزل ضخم بلون رمادي باهت، نوافذه مغطاة بالغبار، وسقفه مائل كأنه انحنى تحت سر ثقيل. لم يكن أحد يقترب منه، ليس لأنه مهجور… بل لأنه، كما يقولون، حيّ.
أهل المنطقة أطلقوا عليه اسم "بيت الصمت". ويُقال إن الداخلين إليه لا يعودون أبدًا في نفس الوقت الذي دخلوا فيه. بعضهم يعود بعد أيام، آخرون بعد سنوات… وهناك من لا يعود مطلقًا.
"آسر"، شاب مهووس بالأساطير الحضرية، قرر أن يكسر هذه القاعدة. الفضول كان يأكله من الداخل، والقصص التي سمعها لم تزده إلا رغبة في رؤية الحقيقة بنفسه.
في مساءٍ غائم، وصل آسر أمام البوابة الصدئة. كانت مفتوحة قليلًا، وكأنها تدعوه للدخول. بمجرد أن خطا داخل الحديقة، شعر بأن الضوضاء من حوله تلاشت… لم يعد يسمع أصوات الشارع أو حتى الرياح. الصمت كان كاملاً، حتى دقات قلبه بدت أبطأ.
فتح باب المنزل بصوت صرير طويل، وكأن الخشب يئن تحت وطأة الزمن. الداخل كان أكبر مما توقع. رائحة الرطوبة تختلط برائحة قديمة لا يمكن وصفها، كأنها بقايا أعمار مضت هنا. في منتصف الصالة، كانت هناك ساعة حائط ضخمة، عقاربها تتحرك ببطء غير طبيعي.
اقترب آسر منها، وعيناه تلتقطان التفاصيل… الخشب مصقول بشكل مريب، والزجاج يلمع على الرغم من الغبار الذي يملأ المكان. عندما نظر إلى العقارب، شعر بدوار مفاجئ، وكأن عقله يسقط في فراغ. حاول أن يشيح بوجهه، لكنه انتبه لشيء آخر…
الجدران مغطاة بعشرات الصور القديمة، وكل الأشخاص فيها ينظرون مباشرة إلى عينيه، مهما تحرك. عيونهم جامدة، لكن هناك شيء في تلك النظرات… شيء حي.
بدأت دقات الساعة تتباطأ أكثر… "تك… تك…". فجأة توقفت. وفي اللحظة نفسها، تغيّر كل شيء. الضوء الدافئ القادم من الخارج اختفى، وحل محله ضوء أزرق بارد يملأ الغرفة.
نظر آسر إلى النافذة، فلم ير الشارع، بل فضاءً واسعًا مليئًا ببيوت معلقة في الهواء، تدور ببطء، وكأنها قطع شطرنج في لعبة غامضة. الأرض أسفلها لم تكن أرضًا… بل فراغ أسود لا نهاية له.
من وسط الصالة، خرج رجل عجوز طويل القامة، بشرته شاحبة، وعيناه غائرتان. كان يرتدي ملابس سوداء قديمة، وصوته حين تكلم كان أشبه بدق مسمار في خشب قديم:
"لقد جئت متأخرًا… والوقت هنا لا يرحم".
قبل أن يسأل آسر أي شيء، شعر بأن الجدران تتحرك ببطء، وأن الغرفة تتمدد وكأنها تتنفس. الساعة بدأت تدق مرة أخرى، لكن الدقات كانت ثقيلة… ومع كل دقة، شعر أن قلبه يبطؤ.
الصور على الجدران بدأت تتغير، ملامح الوجوه تتحول، حتى رآها بوضوح… كلهم أناس عالقون في صرخة صامتة، وعيونهم تصرخ طلبًا للمساعدة.
حاول آسر الهرب، لكنه كلما اتجه نحو الباب، وجده يبتعد أكثر، وكأن البيت يطيل المسافة بينه وبينه. العقارب الآن تتحرك للخلف، والوقت من حوله يتفتت.
خطا العجوز خطوة واحدة نحوه، وفجأة، الأرض تحت قدمي آسر تلاشت، وسقط في فراغ لا نهاية له.
عندما فتح عينيه، كان واقفًا خارج البيت، والنهار مشرق. لكن شيئًا ما كان مختلفًا… الشارع تغيّر، السيارات غريبة، والناس بملابس لم يرها من قبل. أخرج هاتفه، فوجد التاريخ قد تقدم عشرين عامًا، بينما هو لم يمضِ داخل البيت سوى ساعة.
منذ ذلك اليوم، يقسم آسر أنه ما زال يسمع صوت الساعة في أذنه، تدق ببطء… وكأنها تذكره أن وقته لم ينتهِ بعد، وأن البيت سيطالبه ببقيته قريبًا.
ويقول أهل المنطقة إن "بيت الصمت" ما زال ينتظر، بابه دائمًا مفتوح قليلًا، جاهزًا لابتلاع ثانية أخرى من حياة من يجرؤ على العبور.